أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

مُيَسِّرة في صوت الشباب


 



" نحنُ نبحثُ عن صوت ..

أكثر هدوءًا، وأكثر قوة

أكثر عمقًا، وأكثر دقة..ودقة

أكثر فنًا ..

صوتٌ أكثر وصولًا وذكاءً

نحنُ نبحثُ عن .. صوتِ الشباب"


كانت هذه مقدّمة أحد إعلانات البرنامج التي أعجبتني نصًا وصورة.


برنامج صوت الشباب هو أحد برامج مؤسسة مسك الخيرية (مؤسسة الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله) وإسهام من الإسهامات المعرفية التي تقدمها عناية بالاستثمار في الشباب السعودي فكرًا وخبرةً وقدرة.


تتمثل أحد الأهداف الجوهرية لهذا البرنامج في دفع الشباب نحو التعبير عن قضاياهم وقضايا مجتمعاتهم المحليّة بشكلٍ واعٍ وطرحٍ نوعيٍ فاعل.


وقد انطلق البرنامج في دورته الأولى من ثلاث مناطق هي: منطقة الجوف، ومنطقة جازان، والمنطقة الشرقية متمثلة في مدينة الأحساء مع إتاحة فرصة المشاركة للشباب في جميع مناطق المملكة العربية السعودية.


وعلى مدار أربع مراحل: تبدأ بورش تعليمية حول مهارات التواصل والإقناع ثم مرحلة الحوار كتدريب عملي للشباب لتوظيف مهارات الحوار وأنماط التفكير المختلفة لديهم -وهذه المرحلة التي سُعدت باختياري كمُيسرة فيها- تليها مرحلة تركز على مهارات التفكير النقدي لدى المشاركين وانتهاءً بمرحلة الإعداد للقاء صانعي القرار في كل منطقة من المناطق الثلاث.

 

مُيَسَّرة!

عندما أتمعّن في الكلمة، أدرك أني قبضتُ عليها أثناء ارتقاء مكتبتي، رفًا تلوَ رف، كتابًا بعد كتاب، إنها فضيلة الإنصات إلى الأفكار والاشتباك الهادئ معها، ومغبة التورّط في عمليّتين لذيذتين: القراءة والكتابة معًا. هكذا بدأ الأمر معي، ولا زال حتى الآن.

دوري كمُيسرة في البرنامج كان يقتضي ممارسة هذه المهارة التي أدّعي إتقانها " الإنصات " في مقابل السيطرة على لهف الحديث أو الإمساك بزمام الأمور؛ لأنّ جريانها على سجيتها بعد قذفي للحصاة (تقنيات الحوار ومثيرات الأفكار)  يضمن للمشاركين جلسة حوارية إثرائية ماتعة يشكلونها كيفما أرادوا.

أيضًا كان عليّ أنّ أرسي قواعدًا آمنة، تكفل لكل مشاركٍ حقَّ التعبير عن نفسه وأفكاره وما يودُّ طرحه، حق تقدير اختلاف سياقاته ومنطلقاته عن غيره.

وكم كان الأمرُ ممتعًا؛ فهأنا من جديد وسط طوفانٍ عارمٍ من التصورات والرؤى المتفاوتة والمختلفة، بعضها محطٌ للنظر والإمعان والآخر محطٌ للإعجاب والثناء ومع ذلك كنتُ أحاول الحفاظ على الحياد؛ لأني في نهاية المطاف مُيسِّرة! بكل بساطة، لقد كنتُ أفعلُ ما أجيده وأحبّه، وهذا يعني لي الكثير جدًا.


إنّ هذا البرنامج المميز إلى جانب غيره من البرامج الشبابية اليوم، باتت تخلق حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا رائعًا وتسهم في تنمية القدرات البشرية من خلال تمكين الشباب وتجويد الأدوات التي يمتلكونها في سبيل مساهمتهم لتلمس احتياجات مجتمعهم في مختلف القطاعات وإشراكهم في عملية التخطيط وخلق الحلول التنموية المبتكرة.


 إننا اليوم بقيادة الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – نسعى لتوفير كافة الظروف والإمكانات التي تمهّد الطريق أمام جيل صاعد يكون جزءًا من الحل لا المشكلة. ويوظّف قدراته وطاقاته لتحقيق حياة كريمة ذات جودة له، فهو جيلٌ واثقٌ قادر- بعد تمكينه- على تكوين قنوات تواصل فعّالة بينه وبين الآخرين تدعم علاقاته الاجتماعية، وتعزز قدراته في التعبير عن نفسه وتطلعاته، وتحديد خياراته وتمرير مرئياته واقتناص فرصه.


ولا أجدُ ذلك إلا مصداقًا لما ترمي إليه رؤيتنا الطموحة 2030 في جعلنا مجتمعًا حيويًا جذوره راسخة وبيئته عامرة وبنيانه متين. مجتمعًا يراهن رهانًًا رابحًا على الإنسان أولًا ودائمًا.

 

 


الاثنين، 26 أبريل 2021

سنة ثانية ماجستير .. في الرياض

 



عتبة الدخول/

إن المخاوف في رأسي أكبر مما تبدو عليه في الواقع.



 

أخيرًا..أخيرًا، انتهت هذه السنة الدراسية الطويلة، طويلة جدًا بأحداثها وأعبائها.

الفصل الأول منها تجاذبتني فيه هموم الدراسة والمعدّل والتكاليف البحثية التي كانت أشق وأكثر عددًا من السنة الماضية، لكني حين أنظر إليه الآن  على بعد مسافة خمسة أشهر تقريبًا ومعدّل أرتضيه ولله الحمد، أجد أني صقلت مهاراتي البحثية فيه أكثر من السنة المنهجية الأولى، وأني وللأمانة الأخلاقية قبل العلمية "استمتعت" في كثير من مقرراته ونقاشاته، لولا كورونا-أباده الله وخلّصنا منه-الذي باعد بيني وبين زميلاتي وأساتذتي وفسحة التجارب والمغامرات الجامعية التي تبدّت في خيالاتي منذ صدر قبولي للدراسة في جامعة الملك سعود! طمعًا في تأثيث ذاكرتي بالغرائب والعجائب في الجامعة الجديدة! لكني الآن لا أحفظ منها غير فصل ونصف وملامح شاشة حاسوب أرّقتني وأرهقتني لساعات طويلة.

 





أما الفصل الثاني الذي تآكّلني فيه القلق من فشلي في كتابة خطتي البحثية أنا التي ما كتبتُ رسالة علمية قبل هذا الوقت قط أو الإنجاز الركيك غير المتقن، وحالة الضياع الأولى التي أعياني فيها البحث عن طرف الخيط الذي ما إن أمسكت به، انفرط -بفضل الله- على امتداد أسبوعين من البحث والاطلاع والكتابة والجهد المكثف في كلِّ ذلك، حتى انتهيت من خطتي البحثية فيما يقارب 30 صفحة ورقية.

حدث ذلك في الشهر الأول (6) من بداية الدراسة ثمّ طالت الإجراءات ولم يصدر الاعتماد النهائي لها من عمادة الدراسات العليا إلا في هذا اليوم المبارك الذي دفعني ببركته لكتابة هذه التدوينة. مرّ حدً الانتظار على صبري القليل مجرّحًا إياه حتى نفد، فصبرت بعدها من قلة الحيلة. والحمدلله أنها اعتمدت.

هذه قصة المتن، أمّا قصة الهامش (حياتي في الرياض)، فإني حين أتأملها الآن

أنظر إليها نظرة عُجبٍ وتعجب!

لأني في مثل هذا الوقت من السنة الماضية حين كتبت تدوينة(سنة أولى ماجستير .. في الرياض)

كان أول ما فعلته عند وصولي إلى منزلنا في مكة إلقائي بحقيبة السفر في أبعد نقطة في المنزل لا تصلها عيناي أو قدماي فوجودها يهدد أماني وراحة بالي.

اليوم حقيبة السفر في خزانة غرفتي، لا يبعدني عنها إلا المسافة الفاصلة بين فتح الباب وإغلاقه، هي نفسها المسافة بيني وبيني! بين نسختي القديمة التي ذهبت للرياض متعثرة بكل ما تركته خلفها من أهل وأصحاب وأماكن تعرفها وتألفها، ونسختي الجديدة التي بدأت بتأثيث حياة مستقرة في الرياض التي حفظت طرقها إلى حدٍ ما (فهي مجموعة مدن في مدينة) وصارت لي فيها أماكني المفضلة وقت راحتي أو انزعاجي أو رغبتي في تشتيت ذهني أو حتى الترويح عن نفسي. والأهم المكتبات التي أفضّل ارتيادها دون غيرها.






وهذا اعتراف صريح ومباشر أمام الأصدقاء الذين سيقرؤون هذه التدوينة أصحح فيه انطباعهم عن مشاعري تجاه الرياض التي كرهتها ابتداء، اليوم أنا أحب الرياض لأنها منحتني فرصة للتمدد والنمو ومواجهة الكثير من مخاوفي، ولأنها غدت مرآة أتلمّس فيها حقيقتي حين تجرّدت من محيطي والتصوّرات التي حفظتها عن نفسي بأعين الناس. في الرياض كنتُ عارية تمامًا من كل ذلك. في الرياض واجهتُ نفسي وقدّرتها.

ربما لو كانت مدينة أخرى غير الرياض، لوصلت إلى نفس النتيجة لأن العبرة في تجربة الابتعاد والاغتراب وكل ما تُسفر عنها كالتجرّد من حماية العائلة وسقف المنزل وحميمية وجود الأصدقاء.

في الانتقالات السكنية العديدة التي فرضتها عليّ الظروف، وفي قوائم المشتريات المنزلية التي بتُّ أعدها بذكاء، والميزانية الشهرية لمشاويري مع أوبر التي تصدرت قائمة مصروفاتي، فمتوسط المشاوير المعقولة في الرياض تأخذ من 20 دقيقة إلى نصف ساعة تقدّر بـ 80 ريال للمشوار الواحد للذهاب والعودة. والعزم معقود بالتأكيد لإصدار رخصتي في القيادة.

 ومع ذلك فإن الرياض تحديدًا تشبهني في مزاجي العمليّ المهووس بالإنجاز وعلامات الانتهاء من المهام، وزحمة أفكاري وتأمّلاتي الدائمة، في تقلّبي المستمر بين ذواتي التي يناقض بعضها بعضًا أحيانًا، كقيظ نهار الرياض المزعج الذي ينقلب في نهاية اليوم إلى جوٍ عليل وبرودة لطيفة، لنصبح على يوم آخر ضبابه من غبار وإلى غبار يتوسطه هطول مطر عذب، للرياض أيضًا وجهٌ قسماته هادئة وساكنة أحيانًا يشبه مزاجي الرائق وهو يدفعني إلى الخروج والمشي في طريق طويل لا نهاية له، أقلّب فيه طرفي وفكري، الوصول آخر رغباتي. مفتونُة أنا في المشي والتفكير.

 



عتبة الخروج/

أمتنَّ لوالدي كثيرًا لأنه يدفعني لمواجهة الحياة واستثمار فرصها متذرعة بشجاعة أستمدها منه.

الاثنين، 11 يناير 2021

على قارعات طرق العمر




"تتراكمُ الأعوامُ فوق رؤوسنا

حتى تئنُّ من الرُّكام رِقاب"

 

تبدّى لي وجه امرأة متعبة تجلس على قارعة الطريق، تحملُ عمرًا كاملًا فوق رأسها، عمرًا مضى عليها وهي تقرضُ أصابع القلق وتوصد أبواب الخيباتِ بابًا تلوَ آخر. ربما كلُّ النساء يفعلن ذلك أينما كنّ. روضة، شاهدة عيان وصاحبة تجربة "وجعي .. على وجعِ النساء"

من أين جاءت تلك المرأة؟ لا أدري.

وما الفرق بين جيئتها من مشارق الأرض أو مغاربها. اختلاف الجغرافيا هو اختلاف لملامح المواجع والمآتم، لا انعتاق منها.

 

هكذا قرأت هذا البيت، هكذا بالعموم أقرأ الشعر وأنا أشير إلى الحياة وأحدد مواضع ما عاينته منها بالتجربة أو بالقراءة أو بالشعر، تعلّمت أن أفهم وأن أشعر وأن أتحسس اللغة في كل ذلك.

 

نعم تتراكمُ الأعوامُ فوق رؤوسنا، وهذا أصعب ما في الأمر. أن يبدأ الألم من الرأس مرورًا بالرقبة ثمّ إلى سائر الجسم وبقية الأعضاء. يتداعى الجسد لمواجعه، فهل يكون ذلك لأجلِ الآخرين أيضًا!

حين أتأمل قليلًا أجدُ أن العمر الذي أحمله فوق رأسي، ليس ماضٍ بل قادم. أنا لا أحمل العمرَ تحديدًا وإنما أحمل مخاوفه، هواجسه، وقلقه. أحمل محاولات الرتقِ فيما سيحدث لا ما حدث.

 

جاسم الصحيّح في قصيدته التي أسميتها "نبوءة عمرٍ كامل" ويسميها "خيمة من الهواجيس على رابية الأربعين" يقول:

العُمْرُ كلُّ العُمْرِ موسمُ هجرةٍ ..
وأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّدِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ !
كلّما قرأتها أصابني شيءٌ من الذعر، كيف يكون المرء مهاجرًا طوال عمره، يتنقل بين المنافي دون أن يركن أو يستكين، تلفظه بعض البلادِ داخل نفسه وبلادٌ أخرى خارجها، لكنه أبدًا لا يتفق معها، لا يتفق مع الطريق، لأن كل العمر موسم هجرة!
أمعن النظر في النافذة أمامي، نافذة مقهىً لا يشبه المدينة هذه، لا يشبه الناس فيها، لكنه يشبهني ويشبه هذه الجلسة المنكفئة على جهاز الحاسوب. أنا والمقهى نتوءان في وجهِ المكان. وهذا مما يزيد ذعري.

"خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصار
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟"


بم يشعر أولئك الذين يقفون على أطلال حدائق الغروب في أعمارهم؟

ممَّ يسأم المسافر إن كانت خيارات العمر بين حدِّي الارتحال والإقامة؟

 

فإن كان ارتحالًا، فالوعثاء حاضرة بقدر حضور التجارب، وفرص النمو، والتغيير وتحطيم القيود والقوالب التي نختارها أو تختارنا، لكننا على الحالين حين نقرر الارتحال، نبحث وكلُّ بحثِ آيلٌ إلى معرفة.

وإن كانَت إقامة، فإن تعب البقاء أشقى وأعتى، لأنَ الوقت يمضي على كلَّ حال ومعه الأشياء والأشخاص والحياة. فماذا يبقى لنا ومعنا إذا أقمنا؟!

أشرد بعضًا من الوقت، فألتقط الفكرة، ربما هو خوفٌ لا سأم، خوفٌ من الوقوف على "طلل حديقة غروب العمر" في مواجهة النفس وحساب خساراتها ومكاسبها، ماذا لو كانت الخسارة فادحة؟ ماذا لو كانت المكاسب وهمًا؟ ماذا لو كانت المحصلة القليلُ من العمر الذي يستحق أن يشار إليه ويُحتفى به؟

عني، أخافُ الجلوس مكان المرأة التي صوّرتها ابتداءً فأرثي:

" فلاحُ هذي الأرض عمري حنطتي .. وبذرتُ أكثرهُ حصدتُ أقلّه"

 

والقليلُ من العمر مخزٍ..ضيّق وصفيق. قد يتسرّب منه كل ما أحب وكل من أحب.

 كلَّ ما انكببتُ ألملمه من على قارعات العمر والحياة، وأعدُّه، عدة وعتادًا.

فالقليل من العمر ليس مثل البسيط منه. البسيط من العمر مباركٌ وطيبٌ.

 

"البسيط من العمر أن تنتقي وقت نومك

أن تنتقي بدء يومك

أن تنتقي لغة للتأمل والأمنيات

وأن تترك الكون والكائنات

وأن تصطفي غفوة للقدر

البسيط من العمر

أن تجعل العمر شلال ماء يدندن لا يأبه المنحدر"

 

ثمّ أعتقد أننا وصلنا إلى مرحلة حريٌ بنا فيها أن ندخر للعمر، الأجود من الأفكار والتجارب والعلاقات، فهذا ما سنعوّل عليه مستقبلًا، إذا ما توقفنا عن السعي أو تباطأت خطواتنا، في عمرٍ متقدم لا يسعنا معه البحث أو الانتقاء وإنما الاتكاء بطمأنينة. هذا مفهوم يوميٌ بسيط لجودة الحياة.

أتذكر هذا الجزء الذي ختمتُ به حواري مع صديقتي قبل أسابيع قريبة، صادف بعدها أني استمعت إلى إحدى الحلقات الصوتية "لبودكاست أبجورة" وهي تصف المراحل التي يمرّ الإنسان بها في تعامله مع عمره:

"...حين عرفت حدود قدراتك وأدركت أن وقتك قصير وناضب، مهما خُيَّل لك عكس ذلك، ستبتدأ تدريجيًا بالدخول في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة تأسيسية كبيرة في حياة الناس، ستتخلى عن الأصدقاء الذين يستنزفونك، ستقلص النشاطات التي تهدر وقتك، ستعيد النظر في بعض أفكارك وأمنياتك، وفي المقابل ستضاعف جهدك فيما أنت جيّد فيه، وما هو أفضل لك"

 تنتهي الحلقة بابتسامة ساخرة مني: ياه! متى قطعتِ هذه الأشواط من العمر يا أصالة؟! أقلّب الطرف والفكر فأجدُني جادة أكثر مما ينبغي لشابة في منتصف العشرين من عمرها.

 

يا سيدتي .. يا سيّدي: في عموم الأمر (يكفينا من هذا العمر شرف السعي فيه لحياة واحدة تشبهنا على أقلِّ تقدير).