أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

السبت، 27 يناير 2018

رواية مزرعة الحيوان


نتيجة بحث الصور عن مزرعة الحيوان


قرأتُها متأخرًا ، وهذا التأخير جاء بحمولته من الإلمام بالقصة وأفكارها ومآلاتها ، ومع ذلك قرأتُها بلهفة القارئ العازم على الاشتباكِ مع كل كتاب بقراءته الخاصة.

ومما لا يخفى على القرّاء أنّ هذه الرواية كُتبت نقدًا وإسقاطًا للأنظمة الشمولية  على حياة الحيوانات في إحدى مزارع إنجلترا ، فاستطاع جورج أورويل بهذه الطريقة الذكية والرمزيات القوية أن يعبّر عن سخطه ورفضه للواقع الذي عايشه في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعض الوقائع وتداعياتها التي تنبأ بها.

ومن هُنا يتضح أنّ الكتابة فضلاً عن كونها أداة خلود وتعبير هي أداة مقاومة ومواجهة بيدِ الإنسان الكاتب.

تحدثت الرواية بشكلٍ ما عن الإنسان الذي يقع تحت قهرِ السلطة ، تحدثت عن إنسان الثورة والثمن الذي يحشده ، لتحقيق آماله التي تغدو ممكنة بقدر ما هي بعيدة ، تغدو خلاصًا بقدرٍ ما يبدو الواقع مأزقًا له جدرانه الضيقة.
هذا الإنسان الذي ينجو بالثورة ويقع تحت نكساتها في آنٍ واحد، إنسانٌ يفضّل التعلّق بأوهامِ الأمل البعيد على أن تضيق به جدرانه من جديد.

قدّمت الرواية أيضًا تصويرًا عميقًا لإنسان السلطة الذي يتغذى على شهوته فيها ، لتصغر أمامه الثورة ومقوّماتها والأمس واختناقاته ،  كل شيء يلزمه أن يصغر طالما أنّ سلطته تتمدد باستمرار، هذا الإنسان الذي يحافظ على تبعية إنسان الثورة بتغذية آماله في الغد الذي لا يجيء تارة وتارة أخرى بالقوة والقمع.
وهنا تكمن المفارقة ، فكيف لمن عانى من ممارسات الاستبداد أن يعمل على تكريسها بطريقة أو بأخرى.

" جميع الحيوانات متساوية ، لكنّ بعضها أكثر مساواة من غيرها "
اختصر جورج بهذه العبارة حتمية الفشل الذي تؤول إليه الأنظمة الشمولية والتي تحقق الاستبداد والطبقية والظلم بقدر ما تنادي بالمساواة.

قرأتُ الرواية بترجمة محمود عبد الغني ، وبرغم أني لا أملك تجارب كثيرة في قراءة الكتب المترجمة إلاّ أنها ترجمة لا تليق أبدًا برواية كهذه ، ومما أثار استيائي أنّ مقدمة المترجم تحتوي على نقدٍ لاذع لبعض الترجمات العربية المسيئة للرواية باختزال أفكارها وتغيير مسميات الشخصيات وغيره ومما كتبه المترجم بداية " إذ ماذا يبقى من سحر الكلمات إذا أسأنا إلى الكلمات " في حين أنّه قدّم إساءات لا تُغتفر إلى الكلمات في ترجمته ، فحال بيني وبين الاستمتاع الكامل باللغة.

التقت قراءتي لمزرعة الحيوان بقراءة سابقة لرواية سمراويت للروائي الارتري حجي جابر ، والذي دار في فلكِ مقارب حول الثورة الارترية التي لم تكتمل أحلامها وأهدافها حتى بعد مرور سنواتٍ طويلة من الاستقلال ، حيث لا زال الارتريون يتأرجحون بين آمالِ الثورة المعلقة وخيبات الواقع المكرّسة.

يتراءى لي أنّه طالما وُجد الإنسان يظلّ الخلاصُ حلمًا بعيدًا يحرّكه ، وفي غيابه يفقدُ الخلاصُ قيمته. 

الجمعة، 26 يناير 2018

رواية ثلاثية غرناطة


نتيجة بحث الصور عن ثلاثية غرناطة




بعضُ قصصِ التاريخ لا تُكتب احتفاء بما حققه المنتصرون ولا بكاءً وعويلاً على ما خلّفه المهزومون ، بعضُها تُكتب ليَنبتّ عقد الحكاية من المنتصف ، من اللحظة التي تلتقي فيها قدمُ الفلاحِ بالأرض التي لا يملك غير عمره حنطة لها ، فيبذرُ أكثره وإن حصد أقلّه.

وهذا ما أرادته رضوى لثلاثية غرناطة ( غرناطة ، مريمة ، الرحيل ).

لم تسلّم رضوى مآلاتِ الحكاية لأرض حربٍ ولا هزيمةِ معركة ، ولكنها وضعتها بين يديّ أبي جعفر الورّاق، وبدأتها من بيته وعلى تخوم وجعه حين أودت به فاجعة محارق الكتب التي افتعلها الأسبان ، فكانت جذوة النار التي أحرقت الكتب هي ذاتها التي أحرق الأسبان بها البشر مرة وأرواحهم مرات أخرى ،  جذوة النار التي لم تنطفئ أبدًا.

بدأت الحكاية من بيت أبي جعفر الورّاق عندما سلم أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الحمراء المسلمين مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين الملك فرناندو والملكة إيزابيلا واستمرت على مدى ثلاثة أجيال ولكنها امتدت حتى شواطئ بلاد المغرب التي كان يرحّل إليها العرب عبر البحر أو يهربون فرارًا من المكان الذي ما عادوا  يعرفونه لا بأناسه ولا بلغته ولا معتنقه ، هكذا عالجت رضوى في روايتها عددًا من القضايا المضرمة في ضمير المجتمعات المحتلة.

كانت السطوة الأكبر في الرواية لكل مرسومٍ يصدره الأسبان ، يغتصبون معه حقًا جديدًا للعرب والمسلمين، مع كل مرسومٍ كانت تُقَضُّ مضاجع البعض بحثًا عن مخرجٍ يحفظ للأجيال القادمة حقها في دينها ولغتها وأرضها.

والبعض الآخر آثر السلامة بنفسه وعياله حتى وإن كلفته دينه وهويته.

والقلة التي تجد في نفسها رمقًا طويلاً تستطيع به الدفاع عن كلّ هذا ، تقرر أن يكون سرّها الحفاظ على دينها ولغتها بتمريرهما وتعليمهما للأجيالِ القادمة في بطون الكهوف أو تحت دهاليز البيوت المظلمة.

أفلحت رضوى في تصوير حياة الورّاق والفلاّح والنّجار والحدّاد والتاجر والفقيه والخادم بين صراعاتهم وهواجسهم كلٌ يبحث عن نجاته من استبداد المحتل وقسوته ، سواء كانت تلك النجاة إيمانًا بالنصر أو إيذانًا وتسليمًا بالرحيل أو دخولاُ تحت لواء التنصير.
هكذا نجحت رضوى في جذب جغرافيا الأندلس وتاريخها في ثلاثية فريدة ، لم يسبقها الولع بكتابة مشروعٍ ثقافيٍ تاريخيٍ ، ولا فضول التنقيب عن حقائق الفردوس المفقود ، تقول رضوى – رحمها الله – في إحدى محاضراتها :

"وأنا أتابع أخبار قصف العراق ، رأيت المرأة العارية تقترب وكأنني أبو جعفر الوراق في الرواية يشاهد في عريها موته  ، استبدّ بي الخوف وأنا أسأل : هل هو الموت الوشيك ؟ وإن كان فأي علاقة أديرها الآن مع موتي ؟ ومع السؤال داهمتني غرناطة فبدأت أقرأ. أعتقد أن رواية غرناطة بدأت في تلك اللحظة."

جاءت ثلاثية غرناطة  كواحدة من الروايات التي تردّ على مزاعم من يدّعي بأنّ
" الروايات لا تسمن ولا تغني من جوع "

 جاءت هذه الرواية لتفتح بابًا من أبواب الوقوف على التاريخ ، والتحريض على نبشه وفهمه، وحملت بين طيّاتها مرآة قادرة على وضع الإنسان في مكاشفة حرجة مع الذات ، مع الاعتوار الذي يعتريه أكثر من الاستقامة التي يدّعيها.

وعلى امتداد الحكاية حضرت في ذهني أبيات قصيدة " أندلسان " للشاعر محمد عبد الباري ، حضرت هذه المقاطع منها تحديدًا:

" يا أنتَ أندلسُ المكانِ قريبةٌ
مقدارَ ما القوسُ استعادَ سهاما "
" يا أنتَ أندلسُ الزمانِ بعيدةٌ جدًا
فكن لليائسين إمامًا "
" غرناطةٌ مالا يزار لأنها وقتٌ
وهذا الوقتُ صارَ حطاما "

ولم تكن لغة الحكاية أقلّ ثقلاً فقد حمّلتها رضوى مفرداتها الرصينة وتفصيلاتها الدقيقة وتشبيهاتها البديعة غير أنها أفرطت في التفصيل و التشبيه حدّ أن قلصت المساحة المتاحة للقارئ حتى ينسج في خياله حكاية غرناطته الخاصة.



أسئلة تنتهك خصوصية القراءة


نتيجة بحث الصور عن قراءة




بقدر الخصوصية التي تسفر عنها ممارسات الفعل القرائي تبدو الأسئلة من قبيل ما سيأتي أسئلة موغلة في التجاوز والانتهاك.

ما هي القراءة ؟
من هو القارئ ؟
منذ متى بدأت القراءة ؟
ما أكثر الكتب تأثيرًا فيك ؟
ما هو كتابك المفضل ؟
لماذا نقرأ ؟
كيف نقرأ ؟

على اعتبار أنّ ماهية القراءة هي باكورة تلك الأسئلة وأكثرها التباسًا أيضًا. فلن نجد إجابة جاهزة نستدعيها في حضرة هذا السؤال.

لن يجد القارئ على مرّ تجاربه القرائية إجابة واحدة يستطيع إسقاطها على كل المراحل التي مرت بها علاقته بالقراءة.

فالبعض إذ يذكر تجربته الأولى في حمل مجلات باسم وماجد وميكي وغيرها منتشيًا بقدرته على فك رموز النصوص الموجودة فيها وفهمها ً وتعبيره عن انتصاره بقراءتها بصوتٍ عالٍ ، لا نستطيع إنكار أنه كان قارئًا.
وإن أدرك في مرحلة قادمة عبثية الحالة التي عاشها  فيما سبق  في حين أنه يقف على تجربته في قراءة الروايات الموجودة على المنتديات حين كانت تلك الصيحة في ذروتها يتغيّر مفهوم القراءة لديه ليجد أنها وسيلته للوقوف على الحكايات المضمرة في نفوس أصحابها والتي قد تمسّه في واقعه أو شخصه ولم تكن تتأتى له في جلسة من جلسات الجدات ولا مآثر النوادر والمرويات.

فهل نستطيع الاعتداد بتلك التجربة كبداية حقيقية في القراءة ؟

قد يعوّل عليها البعض ولا يفعل ذلك البعض الآخر حين يتجاوز تلك المرحلة فيسخط على كل الأيّام التي قضاها بعيدًا عن كتابٍ يمسكه بيديه ويخلق معه طقوسه الخاصة ، معلنًا  أنه غدا قارئًا منذ دلوفه الأول إلى المكتبة لاقتناء كتاب !

وقد نجد من يتخيّر تجربة تواجده الأولى في نادي قراءة  بداية مميزة للتعاطي مع الفعل القرائي  حيث وجد من يشاركه الاهتمام ويوقفه على تقنياتٍ قرائية لم يعتد استخدامها  ويفتح له آفاقًا على تعدد القراءات الممكنة للنص الواحد وتأويلاته.


سؤالٌ آخرٌ مربك حين يُسأل قارئ ما ، ما هي أكثر الكتب تأثيرًا فيك ؟

ليجد أن حيلته الوحيدة هي استعراض كلّ تجاربه القرائية بتأثيراتها وامتداداتها ، فإن كان لكلِ مرحلة تعاطيها الخاص مع الفعل القرائي ؟ ما هي أكثر الكتب تأُثيرًا فيه ؟

التي هذّبت لغته ؟ أو التي أحالته إلى مجالاتٍ لم يعهدها وأفكارٍ لم يألفها ؟ أم أنّها الكتب التي بلورت لديه مفهومًا أكثر عمقًا عن القراءة ؟ وربما تكون الكتب التي وضعته في مكاشفة مع نفسه.

لذلك لا يقنعني قارئً  يستطيع أن يؤطر قائمة تفضيلاته القرائية في عدد قليل من الكتب في حين أنه لا يستطيع أن يعيش علاقة مستقرة مع القراءة ، خاصة وأني سأجد فيما سأقف عليه من إجاباته ما يعبّر عن كونه مدينًا حتى لتلك الكتب التي تعثّر بها ، أو التي أوصدت أبوابها دونه ، وأخرى ساهمت في تشكيل ذائقته حسبما يحب وما يتجنب.

القارئ موعودٌ دائمًا بلقاءٍ أوّل مع القراءة ، في حضرة كلّ الكتب التي لم يقرأها بعد ، ليدشّن بدايته الحقيقية.
ولا تبدو أسئلة مثل لماذا نقرأ ؟ وكيف نقرأ ؟ أقل فظاظة مما سبقها ، فكيف يرتضي القارئ أن يملي أحدٌ عليه مبرراته الخاصة وأن يرتّل إجابات الآخرين كنصٍ مقدّس ينتهك حرمة ممارساته القرائية ويمزق أستار العلاقة التي يستعذب هلاميتها. هو يحترم الأسئلة التي تقر بفرديته ، الأسئلة على شاكلة لماذا تقرأ ؟ وكيف تقرأ ؟ ينصت ليبلور فلسفته.

القارئ يعرفُ جيّدًا أن الفعل القرائي يخصّه وحده.



 تمّ نشره على موقع كتبجي

أسئلة تنتهك خصوصية الفعل القرائي

الأربعاء، 24 يناير 2018

حمام الدّار قد يغيب



لا يُمكن لهذا النص أن يُقرأ قراءة واحدة إذ تكون قراءة مستطلعةً تحدد ملامح الصورة بكلياتها ، هذا النص كُتب ليُقرأ مرة ثانية ، مرة تستطيع من خلالها أن تُشير إلى مواضع الأشياء التي تعرّفتها. مرة تشي بأسرار غياب حمام الدار وتفكك فلسفته.

كتب السنعوسي هذه الرواية بلغة جيدة وذكاء بالغ راوح به بين شخصيتين كلّ منهما صانع الآخرِ ومصنوعه ، بعيدًا عن إطار الزمان وملامح المكان الواضحة استطاع أن يقدّم لنا قصّة غير موجعة برغم أنها تشاكس فينا معنى الفقد.

بدأت الرواية بمراوغة مأزق الكتابة ، حين تحضر الفكرة وتتمنّع في آنِ معًا ، بدأت وهي تشير بصباحاتها وأصابعها الخمسة إلى هاجسِ الدُّرجِ السفليّ وظلمتِه التي تبتلع كل الأعمال الغير تامة ، فكان الدُّرج السفلي هاجسًا لأبطال الرواية أيضًا، مما جعلهم يشاركون الكاتب في محاولاته لاستدراج نهايتهم. نهاية الفكرة والنص والأبطال.


أما أحجية ابن أزرق فقد تجلّت في واقع الشخصيتين
" عرزال ومنوال "

فقد كان عرزال كهلاً لم يعرف من ماضيِه غير أمسه ، وهي لحظة ميلاده على ورق كاتبه وصانعه ، باحثُا عن المعنى ، عن مسوّغات تشبثه بالحياة وعدوله عن الموت ، متعلقًا بعبثية لا يفهمها بالحمامة الأم فيروز على دكة نافذته وفرخيها زينة ورحّال ، ولا يميّز رتابة أيّامه غير دفتر مذكراته القابع على المنضدة بجانب سريره والذي يطل منه على الأمس الملتبس لديه والماضي الذي أراده له كاتبه برغم أنّه لم يعشه ولا يتذكره ، ماضٍ يربطه بأزرق والحمامة وفرخيها وبصيرة وتعويذتها التي يحملها القارئ معه على امتداد النص حتى يفهم حكاية " حمام الدار الذي لا يغيب وأفعاه التي لا تخون "

وحين يحضر منوال يبدو منطق حكاية عرزال أكثر وضوحًا
من حيث امتدادات القصتين واختلاف الأبطال وتجلياتُ الفقدِ والنهايات المعقودة ببداياتها ، في حضرة منوال ندرك أنّ حمام الدار حين يغيب قد لا يعود ، واحتمالاتُ العودة آمال يصيّرها الانتظار إلى أوهام، والأزرق الآخذ لا يستطيع المنح ، وفيروز أمّه التي لا يذكّر غير غنائها الذي يؤنسها و تواجهُ بهِ خوفها وتبرأ به من آمالِ انتظار الغائبين.


لم يكتمل النص ، ولم تحن النهاية ، فتحقق للكاتب ما كان يهجس به ابتداءً، آلت الحكاية إلى مصيرها إلى ظلمة الدُّرج السّفلي
هكذا ينهي السنعوسي الرواية.
  رواية حمام الدار " أحجية ابن أزرق "


وبهذا أنهي أول تجربة قرائية لي معه ، لأبدي إعجابي بذكائه في تصوير أفكاره وبتقنيته المتميزة في كتابة هذا النص ، وتركيزه على الشخصيات التي أخذت بيد الأحداث لينتجَ لنا سردًا متعدد التأويلات ومحرّضًا على إعادة القراءة .
 وقد كتب السنعوسي روايته بلغة سهلة لها إلماحاتها و حاولَ على امتداد النص أن يحافظ على سلامتها في حين وقع في عثراتٍ لغوية قليلة جدًا.