"تتراكمُ الأعوامُ فوق رؤوسنا
حتى تئنُّ من
الرُّكام رِقاب"
تبدّى لي وجه
امرأة متعبة تجلس على قارعة الطريق، تحملُ عمرًا كاملًا فوق رأسها، عمرًا مضى
عليها وهي تقرضُ أصابع القلق وتوصد أبواب الخيباتِ بابًا تلوَ آخر. ربما كلُّ
النساء يفعلن ذلك أينما كنّ. روضة، شاهدة عيان وصاحبة تجربة "وجعي ..
على وجعِ النساء"
من أين جاءت
تلك المرأة؟ لا أدري.
وما الفرق بين جيئتها
من مشارق الأرض أو مغاربها. اختلاف الجغرافيا هو اختلاف لملامح المواجع والمآتم، لا
انعتاق منها.
هكذا قرأت هذا
البيت، هكذا بالعموم أقرأ الشعر وأنا أشير إلى الحياة وأحدد مواضع ما عاينته منها
بالتجربة أو بالقراءة أو بالشعر، تعلّمت أن أفهم وأن أشعر وأن أتحسس اللغة في كل
ذلك.
نعم تتراكمُ
الأعوامُ فوق رؤوسنا، وهذا أصعب ما في الأمر. أن يبدأ الألم من الرأس مرورًا بالرقبة
ثمّ إلى سائر الجسم وبقية الأعضاء. يتداعى الجسد لمواجعه، فهل يكون ذلك لأجلِ
الآخرين أيضًا!
حين أتأمل
قليلًا أجدُ أن العمر الذي أحمله فوق رأسي، ليس ماضٍ بل قادم. أنا لا أحمل العمرَ
تحديدًا وإنما أحمل مخاوفه، هواجسه، وقلقه. أحمل محاولات الرتقِ فيما سيحدث لا ما
حدث.
جاسم الصحيّح في قصيدته التي أسميتها "نبوءة عمرٍ كامل" ويسميها "خيمة من الهواجيس على رابية الأربعين" يقول:
العُمْرُ كلُّ العُمْرِ موسمُ هجرةٍ ..
وأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّدِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ !
كلّما قرأتها أصابني
شيءٌ من الذعر، كيف يكون المرء مهاجرًا طوال عمره، يتنقل بين المنافي دون أن يركن
أو يستكين، تلفظه بعض البلادِ داخل نفسه وبلادٌ أخرى خارجها، لكنه أبدًا لا يتفق
معها، لا يتفق مع الطريق، لأن كل العمر موسم هجرة!
أمعن النظر في النافذة
أمامي، نافذة مقهىً لا يشبه المدينة هذه، لا يشبه الناس فيها، لكنه يشبهني ويشبه
هذه الجلسة المنكفئة على جهاز الحاسوب. أنا والمقهى نتوءان في وجهِ المكان. وهذا
مما يزيد ذعري.
"خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصار
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟"
بم يشعر
أولئك الذين يقفون على أطلال حدائق الغروب في أعمارهم؟
ممَّ يسأم
المسافر إن كانت خيارات العمر بين حدِّي الارتحال والإقامة؟
فإن كان
ارتحالًا، فالوعثاء حاضرة بقدر حضور التجارب، وفرص النمو، والتغيير وتحطيم القيود
والقوالب التي نختارها أو تختارنا، لكننا على الحالين حين نقرر الارتحال، نبحث
وكلُّ بحثِ آيلٌ إلى معرفة.
وإن كانَت
إقامة، فإن تعب البقاء أشقى وأعتى، لأنَ الوقت يمضي على كلَّ حال ومعه الأشياء
والأشخاص والحياة. فماذا يبقى لنا ومعنا إذا أقمنا؟!
أشرد بعضًا من
الوقت، فألتقط الفكرة، ربما هو خوفٌ لا سأم، خوفٌ من الوقوف على "طلل حديقة
غروب العمر" في مواجهة النفس وحساب خساراتها ومكاسبها، ماذا لو كانت الخسارة
فادحة؟ ماذا لو كانت المكاسب وهمًا؟ ماذا لو كانت المحصلة القليلُ من العمر الذي
يستحق أن يشار إليه ويُحتفى به؟
عني، أخافُ
الجلوس مكان المرأة التي صوّرتها ابتداءً فأرثي:
" فلاحُ
هذي الأرض عمري حنطتي .. وبذرتُ أكثرهُ حصدتُ أقلّه"
والقليلُ من
العمر مخزٍ..ضيّق وصفيق. قد يتسرّب منه كل ما أحب وكل من أحب.
كلَّ ما انكببتُ ألملمه من على قارعات العمر والحياة،
وأعدُّه، عدة وعتادًا.
فالقليل من
العمر ليس مثل البسيط منه. البسيط من العمر مباركٌ وطيبٌ.
"البسيط
من العمر أن تنتقي وقت نومك
أن تنتقي بدء
يومك
أن تنتقي لغة
للتأمل والأمنيات
وأن تترك الكون
والكائنات
وأن تصطفي غفوة
للقدر
البسيط من
العمر
أن تجعل العمر
شلال ماء يدندن لا يأبه المنحدر"
ثمّ أعتقد أننا
وصلنا إلى مرحلة حريٌ بنا فيها أن ندخر للعمر، الأجود من الأفكار والتجارب والعلاقات،
فهذا ما سنعوّل عليه مستقبلًا، إذا ما توقفنا عن السعي أو تباطأت خطواتنا، في عمرٍ
متقدم لا يسعنا معه البحث أو الانتقاء وإنما الاتكاء بطمأنينة. هذا مفهوم يوميٌ
بسيط لجودة الحياة.
أتذكر هذا الجزء
الذي ختمتُ به حواري مع صديقتي قبل أسابيع قريبة، صادف بعدها أني استمعت إلى إحدى
الحلقات الصوتية "لبودكاست أبجورة" وهي تصف المراحل التي يمرّ الإنسان
بها في تعامله مع عمره:
"...حين
عرفت حدود قدراتك وأدركت أن وقتك قصير وناضب، مهما خُيَّل لك عكس ذلك، ستبتدأ
تدريجيًا بالدخول في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة تأسيسية كبيرة في حياة الناس،
ستتخلى عن الأصدقاء الذين يستنزفونك، ستقلص النشاطات التي تهدر وقتك، ستعيد النظر
في بعض أفكارك وأمنياتك، وفي المقابل ستضاعف جهدك فيما أنت جيّد فيه، وما هو أفضل
لك"
تنتهي الحلقة بابتسامة ساخرة مني: ياه! متى
قطعتِ هذه الأشواط من العمر يا أصالة؟! أقلّب الطرف والفكر فأجدُني جادة أكثر مما
ينبغي لشابة في منتصف العشرين من عمرها.
يا سيدتي .. يا
سيّدي: في عموم الأمر (يكفينا من هذا العمر شرف السعي فيه لحياة واحدة تشبهنا
على أقلِّ تقدير).
0 التعليقات:
إرسال تعليق