أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الأحد، 30 أغسطس 2020

التدوينة الأخيرة في أقرأ 2020


 

لا شيء بعد أقرأ يعود كما كان.

 في البداية يعاني الواحدُ منَّا أعراضًا انسحابية، تثقل عليه حمولة الدقائق والساعات، تشتدُّ وطأتها على ظهره وفي صدره، ثمُّ يعود إلى أهله وبيته وهو يشعر بالفراغ، لا يعرفُ من أين يجيء الهواء؟ لكنّه يمرٌّ ياردًا في داخله و وقته وأمكنته.

 يستوحش الأمكنة ابتداءً، لأنها خالية من آل أقرأ (الرّفاق والروّاد والمصورين والمشرفين...)، ما زاروا بيته يومًا لكنّه من فرط ما تعلّق بهم على مدارِ أسبوعين أو يزيد، لأكثر من 12 ساعةً يوميّة، اعتاد فيها حضورهم، أصواتهم، روائحهم و وجوههم ظنّ أنه يعرفهم قبل ذلك وسيعرفهم دائمًا.

ثمَّ يستوحش الوقت بعدهم لأنه معهم كان ممتلأ جدًا باللقاءاتِ والنقاشات والمحاضرات والأمسيات العذبة وبنفسِ القدر بالمهام والمسؤوليات التي لابدّ أن يُنجزها حتى أنّ كل ذلك يزاحم وقت نومه وراحته، ولكنه كان فرحًا، مسرورًا، لأنه يعرف أنّ هذا الوقت الطويل، المرهق أحيانًا، مؤقتٌ وعابر.

سامي يقول: ملتقى أقرأ جنة القراء، ثمّ يباغتني بسؤالٍ مُنتصر، صفي التجربة بكلمة واحدة يا أصالة؟

إن كنتَ يا سامي استأثرتَ بوصف الجنة للقراء، وتركتني في لجة بحر اللغة أتخبط باحثة عن كلمة واحدة فما عساها تكون؟

2020 .. هذه المرة جئتُ إلى أقرأ رائدةً لا قارئة، وهذا يعني أن أنظر إلى التجربة من منطقة مرتفعة أكثر، متخففة من المخاوف والارتباكات، والأجمل أن أساهم في تعمير هذه الجنّة للقراء وهذا ما حاولتُ فعلهُ على امتداد ثلاثة أسابيع، بدأت بأسبوع لقراء المرحلتين (الإبتدائية والمتوسطة) ثمّ قراء المرحلتين(الثانوية والجامعية).

فعلتُ كما أفعل دائمًا أمام مرايا التجاربِ، أبحثُ فيها عمّا لا أعرفه عن نفسي أو ما عرفته بشكلٍ خاطئ، أو ما ظننتُ واهمة أني أعرفه كاملًا، فكاشفتني التجربة.

وكالعادة أيضًا وجدتُ الكثير من كلّ ذلك. وأمتنُّ عليه.

أمتنُ للقارئات اللاتي أشرفتُ عليهنَّ (خديجة، مارية، آية، فاطمة، ريما، إيمان، جنان، رويدا، زينب، سيرين، شهد).

وأمتنّ لكل القراء الذين قابلتهم وعرفتهم,

أمتنٌ للرفاق الذين شاركتهم تجربة الإشراف والرّيادة الأساتذة الكرام:

أ/سامي البطاطي.

د/هند الحازمي.

أ/جمانة السيّهاتي.

أ/فواز العبّاد.

د/فيصل الشهراني,

أ/إبراهيم آل سنان.

أ.رشاد حسن.

أ/أروى الفهد.

أ/ ربا عبدالله.

أ/شيماء الكثيري,

ثمُّ أجيء أنا، أصغرهمُ سنًا وأقلهم نضجًا، وأغضهم خبرة، وهذا والله مما كنتُ حظية به، لأنهم زادوا لي في رصيد العمر والنضج والخبرة ما يمنح للقادم من أيامي ثراءً وجمالًا وعمقًا،  وأحملهُ وسامًا على صدري أردٌ فيه المعروف والشكر لأهله على الدوام. فتقديرًا و ودًا وفيرًا لهم.

خلود والوليد وأشخاصٌ كثيرون في أقرأ، لم أتحدث عنهم بعد ولعل المقام لا يسعني هنا ولا يسع حمولة المشاعر التي أكنها لهم، لكنهم يعرفون جيّدًا أنهم ما مروا عابرين وإنما مرّوا عليّ كرامًا، بررة.

انتهى الأمسُ(اليوم الأخير في ملتقى أقرأ)  باحتفالٍ بسيطٍ يجمعنا نحن آل أقرأ، حين جاء دوري في استلام الدّرع، قال الأستاذ طارق الخواجي مازحًا: الآن جاء دور المُلامة على حدوث الأمور التي لا تسير على ما يُرام.

فأجاب الجميع بصوت واحد: أصالة.

ثمّ ضحكنا، لأن هذا التعليق جاء عطفًا على موقفٍ سابق لطيف في مقام المُزاح أيضًا.

وعندما ذهبت لاستلام الدرع والتقاط الصورة معه، قلتُ بصوت متذمرٍ متندر: أهذه السمعة الطيبة التي تركتها عندكم؟!

فأجاب الأستاذ طارق بنبلٍ اعتدته منه: أنتِ نورٌ على نور يا أصالة.

ومنذ الأمس إلى اليوم وأنا أبتسم مبتهجة كلما ذكرتُ هذا الموقف، لأنه غالٍ عليّ جدًا.

ثم أسأل الله أن يجعلني أهلًا لهذا الظنِّ الطيب، وأن أكون قد أديت مسؤوليات تواجدي هنا على أكمل وجه.

أخيرًا أريدُ أن أقول شيئًا عن المنطقة الشرقية وأهلها:

هنا عندما تبدأ مُحادثتك/ لقاءك مع أحدهم رجلًا كان أو امرأة، لا تنتهي منها إلا بحيرة عذبة وسؤالٍ باسم،  هل السعة في قلبكِ أم على الأرض أو في وجوه الناس؟

يُلمّح الشاعر السعودي عبداللطيف بن يوسف للأمر قائًلا:

" البحر ..

يسكنهُ الذين تعوّدوا عيشًا على أفقٍ تؤطّرهُ السَّعة."

ثمٌّ لا يسعك بعدها إلا أن تفهم هذه العلاقة الفاتنة بين البحر وأهل الشرقية، يمدُّ كل منهما الآخر بشيء مما فيه، تقف على أعتاب الأول مأخوذًا بما تراه وما لاتراه ولكن تُحِسه وتقف قبالة الآخر مٌندهشًا من رحابته وإقباله عليك وكرمه.

نعم هذه تجربة أطرافها مُتراميّة، من أيِّ طرفٍ أمسكتُ به فيها، قلت: يا الله .. ما أسعدني وما أكرمك.

 


الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

يوميات رائدة في أقرأ (3)


 


جاءنا اليوم الأستاذ رشاد حسن ليسأل سؤالًا واحدًا فقط ( لماذا نقرأ الأدب ؟)

سؤالٌ جميل لا أتعب من ترديده على نفسي، في كل مرحلة من مراحل تجربتي القرائية، وفي كل لقاء يضعني في مكاشفة فجة مع تجربة الإنسان، الإنسان الذي يعتريه الاعتوار، أو الذي يتعثّر بنفسه وغيره.

كعزيز في تلك العتمة الباهرة، كوالديّ مشاري في خرائط التيه، وكعازل في أن ترحل، ومريد البرغوثي في رأيت رام الله، وحسن في عداء الطائرة الورقية .

لذا أفهم المشاركة ليان حين ردت السؤال بآخر: لماذا لا نقرأ الأدب؟

سؤالٌ ذكي يا ليان، سؤالٌ يشبه نزعك أوراق الزهرة بحثًا عن ميسمها، يشبه حفرك تحت شجرة بحثًا عن جذورها، يشبه ارتدادك إلى الداخل بحثًا عن الحكاية.

حتمًا ستجد الميسم والجذر والحكاية.

نحن لا نكون دون قراءة الأدب، الأدب هو الحكاية.

في الرواية، في الشعر، هو مادة أولية لكل النصوص، وكل التجارب. لا شيء ممكن دون الحكاية، لا شيء يحدث خارج سياق الحكاية. إذن لا شيء بدهيٌ أكثر من قراءة الأدب.

نفهمُ الأمر بوضوحٍ أكثر حين نكون حاضرين في مجلس المشاركة فاطمة وهي تقدّم مراجعتها عن كتاب (اليأس مقبرة الإنسان) فتتوالى الأسئلة بعدها: هل تكفي القراءة لتغييرنا؟ هل يكفي وجود المعلومة لفعل ذلك؟ هل للخطب والمواعظ ذلك الوقع؟ أم أنها الحكمة؟ على أيَّ الحبال تعوّل في نجاتك من مقبرة المحن؟

 

يا نائيًا عني بمترٍ واحد

الآن وسّعت المسافة بيننا


استشهد الشاعر عبدالرحمن العريج في محاضرته عن الشعر بهذا البيت، الذي أعرفه ويعرفني من فرط ترديدي له. لكنّها المرة الأولى التي أعرف مناسبته فيها.

 إنه بيتٌ في رثاء والد أحمد بخيت الشاعر الذي أحب شعره جدًا.

أرجع إلى القصيدة، أتلمّس أبياتها كما هي عادتي في قراءة القصائد التي أحب، أتذوق كلماتها فأجدُ أنّ مرارتها الآن غدت لاذعة. أتحسس رؤوس الوجع فيها. تبدو مُدببة أكثر.

نعم. هذا ما يحدث عند قراءة الشعر.

يُمكن أن تقرأ القصيدة كاملة أو تستلّ أبياتًا تخرجها من سياقاتها وتستشهد بها حيثما شئت، دون أن تعرف مناسبتها أو تكلف نفسك عبء البحث عن ذلك. جزءٌ من الذائقة يستلذُّ بالتأويل.

لكن يحدثُ شيءٌ مختلف عندما تعرف المناسبة، يتعمّق حضور القصيدة في وجدانك، تجد مستقرها ومقامها في صفحات تجاربك وأيامك، بيتٌ على بيت فتتكون الحكاية.

زَرنوق

سَنورة

كحِين

مِسحَاة

ادّيني

في نهاية اليوم وجدتُني وسط حلقة جميلة مع بناتي والرائدة جُمانة، كلمة من القطيف، ثانية من سيهات وأخرى من الجنوب، والقول الفصل بالتأكيد من مكة=")

كان مجلسًا متأنقًا بضحكاتنا واستمتاعنا بالاختلافات التي وجدناها بين اللهجات، الكلمات والمدلولات.

أستذكر حلقة بودكاست فنجان للدكتور بندر الغميّز الذي أقرّ فيها بكون اللهجات جزءًا من العربية نفسها يُعتدُّ به ويُعوّل عليه.

ياه .. تشتدُّ متانة عصا اللغة التي أتوكأ عليها.

أشعرُ بالرِّضا.


الاثنين، 10 أغسطس 2020

يوميات رائدة في أقرأ (2)

 





 " سؤال الطفل ذاك الذي يخرج بصيغته الخام، ربما يساعدك في أن تستعير منه الشغف ومهارة حيازة السؤال ويجعلك أكثر سعة لتقبل أفكار لذيذة وغريبة كغرابة خياله. قد يجعلك سؤاله تبتسم، لكنه سيكون في ذاته سُلَّمًا للوصول لمعنى ما، دون الالتفات حتى لسطوة علامة الاستفهام"

داليا التونسي


ملتقى أقرأ الإثرائي، مٌحترف لصناعةِ الأسئلة، هنا يتعلّم المشاركون والمشاركات فنّ صناعة السؤال وخلق علامة الاستفهام، يتجاسرون على تجاوز قداسة المألوف والبدهي، فيسألون!

يلتفتون إلى الفارق بين ماهية الأشياء والأفكار وأغلفة الفهم المزعومة التي يدَّعيها كلَ منَا، فتتفتت معهم الحقائق أو ما يظنون أنه الحقيقة ويعودون إلى المادّة الأولية منها، نعم الأسئلة تقلب أفكارهم على أعقابها، لكنهم هنا مفتنون جدًا بهذا الانقلاب ويسعون إليه.

خديجة  تقول بعينين متوقدتين: أبحث عن الدهشة.

مارية تُردف بحماسة وتَطلّع: أريد أن أترقّى في مدارج الإلهام.

ريما تؤمن بالعلاقة بين التاريخ والحاضر، كلّما تحدّثت يتجلّى توقها لإيجاد ذاك الخيط الرفيع الذي يربط بينهما، تؤمن بالقيمة خلف الوصول.

آية لا تكلُّ ولا تملُّ باحثة عن جزيرة الكنز خاصتها. حين تصفها تبدو أكثر إثارة من جزيرة سيلفر. تقول: أنها تبحث عن الكنز، فأسألُ أنا.

 إنها عدوى السؤال. بناتي دون أن يدركنَّ يجذبنني بجمال إلى عوالمهن، يشركنني في حكاياهن، فتكبر أسئلتي وأكبرُ أنا، وأراهن على الطفل الذي يكبر في داخلي أيضًا، يكبر ليخلد، لا ليشيخ. يشتعل العمر غضاضة.

يسأل الأستاذ علي البركاتي في نهاية محاضرته المتعلقة بأوهام القراءة، ما الذي يحدث كلما كبرنا لتتناقص سبل الدهشة أمامنا ومعنا؟َ!

فتتبدَّى لي الإجابة في جلسة الحوار السابقة التي أدارتها المشاركة خديجة عن كتاب (أنا ملالا) حين وجهت سؤالًا إلى زملائها مفادهُ " إلى أي مدى يُمكن أن تتحول الأفكار المفروضة قسرًا من سلطة ما مع مرور الوقت إلى جزء من هويتنا وتشكيلنا الذاتي؟"

ليست فقط الأفكار المفروضة بل الموروثة والمعلّبة التي لا يتوانى الكثير ممن حولنا عن تقديمها لنا، هذا ما يحدث يا أستاذ علي.

نقع في فخاخ الوصفات الجاهزة للحياة. معها لا جدوى من السؤال ولا قيمة للدهشة.

ثمّ انتقلنا مع الأستاذ بندر سليمان إلى مساحة مختلفة وممتعة في التدوين البصري، أخرج المشاركون والمشاركات فيها مواهبهم في الرسم ودارت بينهم حوارات رائعة عن علاقة التدوين البصري بالتفكير ومناط حاجتهم له كقرّاء.

أيضًا لم تكن جلسة النقاش التي قدّمتها المشاركة ليان أقلًّ متعة، تثير إعجابي ليان حين تتحدث، مهاراتها اللغوية عالية وحضورها لافت، قدّمت مراجعة جميلة عن كتاب الحقيقة والكتابة لبثينة العيسى، واستطاعت إثارة نقاشات ثرية بين زملائها وزميلاتها المشاركات.

تقول المشاركة بتول: لا أشعر بالتنافسية في أجواء الملتقى، إنّ ما يغلب عليها تطلع المرء إلى خلق علاقات وصداقات تثري رصيد تجربته، تعمّق استفادته، ويختبر معها كلَّ أفكاره التي يعتقد بصحتها وصوابيتها.

وأعتقد أنّ هذا جزء جوهري جميل في مسابقة أقرأ، غياب النزعة التنافسية الشائهة، في كل التفاتة مفاجئة وسريعة مني إلى المشاركين والمشاركات ألتمس ذلك وأراه صريحًا حتى أنّهم لا يترددون في مساعدة بعضهم البعض ومشاركة الأفكار فيما بينهم. بمرور اليوم الثاني فقط هناك تبدّى الدفء والتقارب فيما بينهم وهذه إحدى بركات أقرأ. وما أكثر بركاتها.

ومما يميز هذا الموسم أيضًا فصل الملتقى الإثرائي الخاص بالمرحلة الإبتدائية والمتوسطة عن الملتقى الخاص بالمرحلة الثانوية والجامعية، نجاح هذه الخطوة بدا منذ اليوم الأول.

أشعر بالتعبِ اللذيذ.

 

 

 

الأحد، 9 أغسطس 2020

يوميات رائدة في أقرأ (1) 2020

 

خديجة: معلمة هل تعرفين جلسة سقراط؟

أصالة: لا. ما هي جلسة سقراط؟ أخبرينا عنها.

خديجة: جلسة نطرح فيها الأسئلة المفتوحة والممكنة، سؤالٌ ينبثق عنه سؤال آخر، في دورات كاملة بيننا نولّد الأسئلة، لنخلق إجاباتها.

أصالة: جميل، جميل. إذن ماذا لو غابت الشمس؟

خديجة: إنه سؤال غير فلسفي، وأعتقد أن له إجابة علمية.

أصالة: لكني لا أنظر إلى السؤال من هذه الزاوية، ما أقصده كيف ستبدو الحياة بالنسبة لخديجة أو أصالة لو غابت الشمس ...


ثمّ تدفّق عليَّ وابل الإجابات والأسئلة من المشاركاتِ اللواتي أشرفت عليهنّ، أو كما أحب تسميتهنّ، بناتي.

خديجة في نهاية المرحلة المتوسطة.

بعد انتهاء جلستي الأولى معهنّ، أدركتُ حجم الهوّة الصارخة بين ما حدث وبين تغريدة كتبتها على صفحتي في تويتر قبل أربعة أيام( أكثر ما يزعجني في انكفاء الأطفال والناشئة على الأجهزة الالكترونية، فوات خيارات وفرص حياتية عليهم. كم تجربة جديدة ما عاشوها؟ كم علاقة أو تفاعل اجتماعي يثريهم ما انتبهوا له؟ كم متعة أخرى محتملة( مع غير الأجهزة ) فوتوها؟ هذا العمر الواحد يقصر كلما ضاقت مساحات المعرفة والتجربة والاكتشاف).

يقول باسل وأظنه في نهاية المرحلة الإبتدائية أو بداية المرحلة المتوسطة عبارة مفادها (أنه هنا لتكوين الصداقات التي يمكن أن تثريه وتفيده في تجربته القرائية أو في رحلة العمر)

فأجدُ أني موعودة بأيامٍ بالغة الكرم في عطاءاتها، لذيذة بمكتسباتها مع ناشئة يعرفون جيّدًا كيف يكبرون بالتجربة قبل العمر، ويتمددون إلى حدِّ الآفاق التي تؤطرها السعة.

 

 فلّاح هذي الأرض عمري حنطتي .. وبذرت أكثره حصدتٌ أقلّه.

أحمد بخيت

أما أنا فأقف أمام فلّاحين يبذرون الأقلّ من العمر ليحصدوا الأكثر من القيمة والمعنًى.

آية أيضًا جاءت إلى الملتقى الإثرائي بحثًا عن المعنى. آية في المرحلة المتوسطة.

حسنًا. هل المعاني لا تكتملً بقدر مالا تكتمل الحكايات؟

هذا سؤال تبادر إلى ذهني أثناء المحاضرة الجميلة التي قدّمتها لنا المبدعة في أدب الأطفال:   أ. أروى الخميّس، عندما جاءت مجندة حججها وحكاياتها في محاضرة(حكايات لم تكتمل) ومراهنة على المساحات البيضاء في نصوص الكتّاب تلك التي يتركون من خلالها شقوقًا تسمح بنفاذ تأويل القراء في تواطئ ضمني على المشاركة في حكي الحكاية، فدائمًا لدى القارئ ما يقوله بقدر الكاتب على الأقل أو ربما على الأكثر.

ماذا عن مسلّمات القصص التي توارثها الجدات والأجداد وبثها الأدب في وجدان المجتمعات جيلًا بعد جيل، ماذا لو كان مالا نعرفه عن قصة سندريلا وطرزان أكثر متعة وإثارة مما عرفناه؟ ماذا لو بدأت القصة بعد نقطة النهاية؟ نعم تلك الحكايا ناقصة وأكمل المشاركون والمشاركات ما استطاعوه منها، في جلسة ولّادة للأسئلة ومالئة للفراغات

أشارك في هذا الموسم كرائدة إلى جانب رائدتين أخريتين. هند من جدة عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية، وجمانة الكاتبة والمهتمة بأدب الطفل من سيهات وفوّاز معلم اللغة العربية، ومن هنا تبدأ حكايتي التي أعيشها لأرويها، ربما تختلف عن حكايا المشاركين والمشاركات، لكني أؤمن أنها ليست أقل حظًا من الدهشة والجمال أو ثراء من المعرفة والتعلّم.

هذا دون حساب الجلسات العفوية والطارئة التي تجمعنا بالأستاذ طارق الخواجي أمين مكتبة إثراء والمشرف على مسابقة أقرأ، هذا الرجل المبارك الذي ما إن يبدأ لقاؤك به حتى تستهلّ الأحاديث وتترامى أطراف الأسئلة ويتمدد بساط المعرفة من تحتك، وفي نهاية كل جلسة أو لقاء تتسآل ما الذي لا يعرفه هذا الرجل؟! بارك الله له وفيه وعليه.

يقول أستاذ طارق:أقرأ بحاجة العودة إلى القرّاء.

وقصد في حديثه إلى أنّ هذه المسابقة تكبر بمشاركيها وترفع سقف معاييرها موسمًا تلوّ آخر، ودائمًا لدى القرّاء والقارئات ما يقدمونه ويضيفونه.

أنظر إليه بامتنان وأنا أستحضر من ذاكرتي مواقفًا من الخيبة عشتها في المرحلة الثانوية بين عامي 2012 -2013، حين كانت مسابقات الموهبة و أولومبياد الإبداع تقتصر على النماذج الفذة والنابغة من الطلبة في مجالات العلوم والهندسة، فكانت المدرسة تشجعهم وتدعمهم وتفاخر بهم، وكنتُ أشعر بقلة حظي حينها لأني لا أمتلك شيئًا أقدمه أو ميزة أمتلكها أو موهبة أتفوق بها مثل زميلاتي اللواتي يشاركن في مثل هذه المسابقات. وكنت أعتقد حينها أنّ اهتماماتي الأدبية هي فضلة حظي العاثر عليّ.

لكننا اليوم نقف على أعتاب مرحلة مختلفة تمامًا في جوهرها وفرصها، يُقدَّرُ فيها أصحاب المواهب الأدبية كما يقدّّرُ أندادهم من أصحاب المواهب العلمية، وهذا يعني استثمار حقيقي وفاعل ومثمر في الناشئة والشباب بمختلف أطيافهم واهتمامتهم. ومن مثل مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي الذي أنحاز له بالعاطفة وأدين له بالامتنان.

أخيرًا هنا أنا مُكلّفة بمجموعة من المهام التي تصب في صالح تعزيز المهارات النقدية والمهارات اللغوية المرتبطة بالكتابة والإلقاء للمشاركات اللواتي أشرف عليهنّ لكني لا أعوّل على هذا الدور بقدر ما أعوّل على دوري في تقليص مساحات القلق والخوف التي تحجّم مساحات النمو والاستمتاع بالتجربة لديهن، فبقدر ما يتجاسرن على المشاركة والتعبير عن ذواتهنّ و وجهات نظرهنّ، سيبدأن باختبار أفكارهنّ و وضع المسلّمات أو الصواب الذي يعتقدنه على طاولة التفكيك والتشريح لإعادة بنائه وتشكيله لا كيفما توارثنه ولُقنّه ولكن كيفما يؤمنّ به وينبعث من ذواتهنّ.

أليس مدهشًا وجميلًا أن أكون جزءًا من صناعة تجربة نوعيّة تساهم في بناء الإنسان على هذه الشاكلة. بلى.

أنا سعيدة.

الثلاثاء، 12 مايو 2020

سنة أولى ماجستير..في الرياض


 يبدأ معك كل شيء عندما تتقدّم!

 كل خطوة هي اجتثاثٌ من جذورك ونفيٌ عن أرضك المباركة، كلما ارتفعت ساقك عن الأرض تزداد ضربات قلبك، يتآكّلك خوفك من الداخلٍ شيئًا فشيئًا.
 تنظرُ تارة إلى موضع قدميك محاولًا تتبع خطواتك المستمرة والتي لا تتوقف، من أين لها هذه الشجاعة؟!
تارة أخرى تنظرُ إلى الأمام الذي تذهب إليه مستمرًا وخائفًا، وهذا القلق المستعرُّ في نظراتك وحده يملكِ القدرة على مساءلتك، محاسبتك، مواجهتك بأسئلة فجة وصارخة عن الجدوى؟ وعن القدرة؟ وعن ضماناتِ الوصول؟

لا زلتَ تخطو إلى الأمامِ، لا زلتَ تتقدم!
وأشياؤك وأشخاصك يتساقطون منك إلى الوراء، إنك تذهب لكنك وحدك ..

الغربة، أزعم أنها شيء يشبه ذلك يا أصدقاء.

 أو هكذا شعرت منذ الليلة الأولى التي بتُّ فيها في الرياض عندما تركني والدي هناك عائدًا إلى مكة، في إيذانٍ أوّل بأنّ كل ما سأعيشه لاحقًا نتائج وتبعات أوجدها قراري في الدراسة بعيدًا عن العائلة والصديقات.





حدثت أشياءُ كثيرة منها ما أذكر تفاصيله ومنها ما نسيته، لكن بالشعور أذكر جيّدًا وحشتي:

- في الليلة الأولى في سكن المغترباتِ، الذي يحرسُه حارسٌ لا أعرفه.
- في اليوم الأول الذي مشيتُ فيه وحدي من كلية الآداب حتى المكتبة المركزية وأنا أتذكرني محفوفة بالصديقات كل يوم مضى في جامعة أم القرى.
في المرة التي قررتُ فيها أن أعمل وأتحمل مسؤوليات استقراري وحياتي كاملة في الرياض.
         -في إجازة العيد الوطني التي لم تتسنى لي فيها فرصة العودة إلى مكة، فذهبتُ إلى مكتبة جرير في محاولة تجاهل الغصة التي شعرت بها، ليصلني اتصال من أخي تنهار معه كل دفاعاتي فأنخرط في البكاء(أنا لحالي هنا، أبغى أكون معاكم، أبغى أجيكم مكة).

كيف لمدينة كبيرة ومكتظة إلى هذا الحد أن تضيق بي؟ كيف اختنقت برغم رقة رياض بدر بن عبدالمحسن؟





كلّما نظرتُ إلى المرآة بعد ذلك، وجدتُ شيئًا فيّ يتغيّر، كنتُ كمن يعيد ترتيب الحياة بداخله ويحاول مرة تلوَ الأخرى اكتشاف مساحاتٍ أوسع وأرحب أبتكر فيها معانٍ جديدة لكلمات طالما بهتت من فرط تردادي لها( المسؤولية، المواجهة، الشجاعة، الطمأنينة، الحب، العائلة، الأصدقاء ...).

الشجرة كانت تكبر وتنضج على هذا النحو، أخيرًا استطاعت أن تتمدد بجذورها في أرضٍ مختلفة.

هذا شيء من ملامح الحكاية والحياة آنذاك، أمّا على مستوى المرحلة الدراسية أريد أن أطرح الأسئلة وإجاباتها في آنٍ واحد لأنّي أدركُ تمامًا بأن ذلك الشخص الذي سيأتي باحثًا عن إجاباتٍ تطمئنه وتهدهد مخاوفه وهواجسه في أحد لياليه الدراسية، يريدها واضحة، مباشرة وصريحة.






*ما الذي دفعك لإكمال دراستك؟ ولمَ لم تكن الوظيفة خيارك الأول؟

توظفت مؤقتًا في الفترة الانتقالية بين انهائي لمرحلة البكالوريوس وتقديمي على الماجستير، وكانت تلك الفترة حاسمة لخروجي منها ببعض القرارات والتي كان أولّها أني أنتمي للعالم الأكاديمي أو أحبّه بمعنى أدق، وأجد نفسي كثيرًًا فيه، احتكمت في ذلك إلى معيار قيمي الخمسة العليا والتي يأتي العلم تعلّمًا وتعليمًا في قمتها، ثمّ إلى اهتماماتي المبكّرة في القراءة والبحث وإعداد المواد العلميّة المكتوبة، وأخيرًا إلى معيار شغفي بتخصصي وتفوقي فيه بفضل الله، واعتقدت بعد الاستشارة والاستخارة أنّ هذا قد يكون كافيًا لأتقدّم بشجاعة للمجال الأكاديمي.

     * كيف كانت ليلةٌ اليوم الدراسيِّ الأول؟

كعادتي منذ 16 عامًا أمضيتها بلا نوم، وظللت أبحث عبر شبكة الانترنت عن مدونات أو قصص لأشخاص خاضوا تجربة دراسة الماجستير، حتى أطمئن قليلًا حين أعرف مخاوف من سبقني في هذه المرحلة وجدتُ بعض القصص المطوّلة، لكنّ أكثر ما وجدته كان في تويتر عبر وسم #أولى_ماستر #نصيحتك_لطالب_ماجستير_مستجد ولهذا كان قراري أني أيضًا سأكتب تدوينة أصف فيها تجربتي علّها تطمئن أحدهم يومًا ما.

* بعد مُضي ليلتك الأولى والعديد من الليالي الدراسية حتى إنهائك للسنة الأولى في دراسة الماجستير، هل وجدتِه صعبًا؟ وفي جامعة الملك سعود تحديدًا؟

لا. الحمدلله لم يكن صعبًا لكنه كان مُتعبًا ولا سعيَ دون جهدٍ وتعب. بالنسبة لجامعة الملك سعود تحديدًا، فأعترفُ أني كنت أملك تجاهها العديد من المخاوف من بداية تقديمي نتيجة ما كان يصلني عن ارتفاع معايير القبول ومعايير الدراسة العلمية، لكن تجاوزتُ كل ذلك بفضل الله و وجدتُ أني مؤهلة للدراسة فيها وكل مجتهد كذلك.

*كيف استطعت إذن توظيف وقتك لمواجهة ذلك التعب ؟ لأنّ أكثر ما يُذاع عن هذه المرحلة أنها تغرق الدارسين غرقًا لا ينجو معه وقتهم، فلا شيء سوى الدراسة.

صحيح هذا أكثر ما قرأته أيضًا في تويتر ليلة الدراسة الأولى وتخيّلتُ حينها أني لن أجد وقتًا أحكّ فيه شعر رأسي كما يقولون!
لكن دائمًا كان هناك وقت، ربما أيضًا لأني أدرس بعيدًا عن الأهل والأصدقاء مما يعني انعدام الالتزامات والمسؤوليات الاجتماعية وفائض كبير من الوقت، فكنتُ أجد وقتًا لإنجاز بحوثي وللاستذكار، وللتواصل مع الأهل والأصدقاء ومشاهدة التلفاز ..
وعلى كل حال أعتقد أنها مسألة أولويات ومفاضلة بين الخيارات، يحدد فيها الشخص الأهم فالمهم فالأقل أهمية، مع اضطراره أحيانًا للتضحية والتنازل المؤقت عن أشياء ذات أولوية.

*كيف كان تعامل أعضاء وعضوات هيئة التدريس؟

كما يكونون في كل زمان ومكان! منهم المرن والمتعاون والمتفهم لمخاوف الطلبة لاسيما في البدايات ومنهم من هو على العكس من ذلك يميل إلى الجمود وفرض أرائه الشخصية وتضييق نطاق التفكير والإبداع العلمي لدى الطلبة.
منهم من قدّم لنا نموذجًا رائعًا للشخصية الأكاديمية كباحث وكعضو هيئة التدريس ومنهم من كان دون ذلك.

مع ذلك كانت النماذج الجيدة غالبة الحمد لله.

* بعد إنهائك للسنة الأولى ماذا بقي لك؟ وما السمات المميزة لهذه المرحلة؟

بقي لي فصل دراسي واحد منهجي (أدرس فيه مقررات) وبعدها أبدأ في إجراءات تسجيل الرسالة ثم كتابتها بإذن الله.
السمات المميزة لهذه المرحلة بالنسبة لي كانت كالتالي:
-        قلة عدد المقررات مقارنة بالبكالوريوس( كل فصل دراسي فيه 4 مقررات).
-        جهد مكثف من البحث والقراءة لإعداد البحوث والمواد العلمية لعروض المقررات.
-        إن كانت المحاضرات الدراسية خلال يومين فلابدّ أن يكون اليوم الثالث لارتياد المكتبة لساعات مطوّلة، وإن كانت خلال 3 أيام فلابدّ أن يكون اليوم الرابع للمكتبة.

* هل اخترتِ موضوع رسالتك؟

لا، ليس بعد. وهذا أمر عادي وطبيعي جدًا حتى هذا الوقت.
لأنّ أكثر النصائح تكرارًا في بداية هذه المرحلة كانت(لازم تختاري موضوع رسالتك من بدري، لا تخلص السنة الأولى وانتِ ما اخترتي،...) وجملة من العبارات التي تعزز القلق وتجعلك تشعر بأنك لن تنال وثيقة التخرج إن انتهى عامك الأول قبل اختيارك للموضوع بل والمشرف!
كلما كان الاختيار باكرًا فهذا يوفّر وقتًا بل وجهدّا أحيانًا على الطالب، لكن مع ذلك فكل هذا الوقت من حقّ الطالب في التروي والاختيار حتى انتهاء فصوله الدراسية المنهجية تقريبًا.

أخيرًا كان شعار المرحلة بالنسبة لي:




عندما أطللتُ على هذه المرحلة من شرفة محمد عبدالباري
وجدتُها كما يقول:

ستجيء سبعٌ مرة فلتخزنوا.. من حكمة الوجع المصابر سكرا
سبعٌ عجاف فاضبطوا أنفاسكم .. من بعدها التاريخ يرجع أخضرا

والسبع العجاف دائًما ما يتلوهنّ سبع مورقات، فأتأمل.