أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الخميس، 14 سبتمبر 2017

فخّ التخصصات التي لا تؤمّن المستقبل




تبقّى القليل على بداية العام الدراسي ، وكعادتنا مع كل بداية ، نشحذ هممنا ونتوق لتقديم أفضل ما لدينا خلال السنة الدراسية ، ونفكّر في كيفية سير السنة والعقبات التي ربّما نواجهها والمعدل الذي نصبو إلى تحقيقه ، ولكن للبعض بدايات مختلفة ، بدايات جديدة بمثابة المنعطفات ، لا يدري معها إلى أين سيصل وما ستؤول إليه النتائج ، هذه بدايات الطلبة المستجدين في الجامعة والذين أخصّهم بحديثي هنا.

" مبارك تمّ قبولك في تخصص .............." عند وصول هذه الرسالة إلى هاتفك المحمول ستتزاحم المشاعر لديك حسب التخصص الذي تمّ قبولك فيه مقارنة برغبتك الشخصية أو ربما رغبة الأهل أو محاباة الأصدقاء ، وفي حال جاءك القبول في تخصص يوافق رغبتك ويخالف رغبات من حولكِ ، أفهم ما ستشعر به من قلق إزاء إبلاغهم بالأمر وإزاء مواقف التأنيب المكررة التي ربما تواجهها طوال سنوات دراستك الجامعية ، كما أفهم موقف الكثير ممن حمّلهم أهلوهم أو البعض ممن حولهم ثقل توقعاتهم وتوجيهاتهم التي تخالف ميولهم ورغباتهم بزعم أنه متفوق ويستحق الأفضل أو بمزاعمَ غيرها ، كم منّا انتظر منه أهله أن يتخصص في الطب أو الهندسة أو تخصص له مستقبل على الأقل ؟! ماذا لو كان أكثر أفراد المجتمع من العاملين في ميادين الطب والهندسة والتخصصات العلمية – التي ترتقي بالمستقبل وتؤمنه على حدّ زعمهم – من سيمسك بباقي أطرافِ العلوم ، شرعية كانت أو إنسانية ؟ من للعقيدة والشريعة والقراءات ؟ أو من لعلوم الاجتماع وعلوم النفس والتربية ؟ وغيرها من التخصصات.

يُسفر الواقع وينطق المنطق عن أنّ المجتمعات لا يمكن لها النهوض أو التقدم وهي تعوّل على جانبٍ واحد من العلوم أو ترتكز على ركيزة واحدة منها ، لا تنهض المجتمعات وهي تحاول التصدي لمشكلات الصحة التي تعتري جسد الإنسان وتتجاهل مشكلات الصحة التي تعتري فكره وعقله ونفسه ، تعيث  المجتمعات بجهودها عبثًا وهي تحاول تشييد الأبنية العالية وصناعة المركبات وتحديث التقنيات ، في حين أنها عاجزة عن إيجاد قاعدة رصينة متينة في علوم الشريعة والدين ، حتى يكون لكل مساعيها غاية ومعنى مرتبطة بوجود الإنسان في مجتمعه وعلى أرضه. وكيف بالأساس نصف المجتمعات بأنها مجتمعات تحوي تنظيمات بشرية تتفاوت في طبقاتها وأصولها وتكويناتها العرقية أو نستطيع على الأقل فهم التفاعل والتكامل القائم بين أنساقها المختلفة دون الاستناد على علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا ؟!

ثمّ في ظلّ وفرة الأيدي العاملة التي يشهدها المجتمع اليوم ، ما هي التخصصات التي تكفل للفرد مستقبله الوظيفي ؟! نحن لا نريدُ المزيد من الأطباء لكن نريدُ المتميزين منهم ، ولا نريد المزيد من المهندسين لكن نريد الأفضل منهم ، نريدُ منهم من يضيفُ إلى علمه ويرقى بمجتمعه ، لا من ينتظر أن تزداد قيمته هو بإضافة حرف "د" قبل اسمه ، ولا من يتعامل مع لقب المهندس وكأنه وسامُ تشريفٍ خالٍ من تكاليف مسؤولية الارتقاء بتخصصه ومهنته.
أستشهد هنا بعبارة د.طارق السويدان التي سمعتها عندما كنت حائرة ، تائهة في فترة اختيار التخصص الجامعي ( الدخول في الازدحام يحتّم عليّ التميز فيه )

ثمّ أستشهد بإحدى نصائح والدي التي طالما كررها على مسامعي ( تتاح الفرص وتتعدد الخيارات أمام المتميزين الذي يفعلون ويقدّمون أكثر مما يفعله ويقدّمه أقرانهم أو غيرهم )

آخر ما أودُّ التطرق إليه هو أني حين كنت أتجوّل بحثًا عن مفاتيحٍ تُسهّل عليّ عملية الاختيار وتُملّكني أدواته المعرفية ، كانت معادلة ( الفرق ) هي أكثر ما لفت انتباهي ، هذه المعادلة التي تأخذ بيدي كلّ من أرّقته حيرة اختيار التخصص أو المجال المناسب ، ماذا تعني هذه المعادلة ؟!
فرق ..
ف : تُشير إلى الفرص الوظيفية خاصة أو الفرص التي يُتيحها التخصص أو المجال في سوق العمل عامة.
قناعتي الشخصية تنطوي على أنّ الفرص نوعين :
-        فرص تأتيك لأنكّ مؤهلٌ كفاية لاستحقاقها.
-        وفرص أخرى أنت وحدك من يستطيع خلقها وإيجادها.
ر : أما الراء فهي الحرف الذي يكُنّ لك كل التقدير والاحترام لأنه يبحث عن ( رغباتك وميولك ) أي ماذا تريد أنتَ وماذا تُحب وبماذا تستمتع ؟
                               وهنا أستذكر مقولة للدكتور : طارق السويدان      
( الذي يعمل فيما يُحسن سيُنتج ، والذي يعمل فيما يُحب سُيبدع )
أخيرًا تنتهي معادلة الفرق بسيدة الموقف ألا وهي القدرات :
" أي كلٌ مُيسرٌ لما خُلقَ له "
للإنسان قدرات ومواهب وإمكانيات فطرية لا تنتظر سوى التوجيه والتشذيب والتنمية وفي مقابل هذا لا يعني أنّه لا يمتلك قابلية تعلم الجديد والمزيد فالعلم بالتعلم.
وهذا يعني أنّنا نمتلك أيضًا القدرة على مضاعفة قدراتنا كلٌ حسب سعيه وهمته واستطاعته.
إذن اختياراتنا في الحياة هي ما تصنع الفرق.

هذه التدوينة هي خلاصة كل التجارب التي مررت بها منذ فترة اختياري لتخصصي الجامعي وحتى اليوم ، هذا التخصص الذي وبخني على الالتحاق به الكثيرون بدعاوى كثيرة وأهمها " الخدمة الاجتماعية تخصص ما له مستقبل " إن كانوا يعتقدون أنّ المستقبل كله ينحصر في مجرد وظيفة فبشراي لكلّ من وبّخني أو استنكرّ علي ، أني إلى الآن وقبل تخرجي قد عُرضت عليّ 3 وظائف ، لأنّ الفضل كل الفضل والرزق كل الرزق بيدِ الله وحده ، والمستقبل الذي أريده وأتمناه أكبر من مجرد وظيفة.


كنتُ هنا بمودتي ودعواتي للطلبة المستجدين بالتوفيق والتميز.

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

إلى الأطفال الذين لا يفهمهم الكبار




أقول / تقول / يقول :
إلى طفل أوحد كنته وإلى أطفال كثر لم أكنهم.
إلينا نحن الذين نشابه بعضنا ولا نتشابه.

كم سخرت كتبُ والدي التي كانت في الرفوف العليا من المكتبة من قفزاتي المتكررة الآملة في الوصول إلى كتابٍ واحد ، حتى أقلب عابثة صفحاته ، أمزّق بعضها وأحاول سبر أغوار البعض الآخر ، حتى ألوك الكلمات الشهية وأتذوّق عصارة فكر أو عاطفة كاتبٍ ما أو أحاول بعجب في نفسي فكّ رموز الأسطر الماثلة الأمامي بأول الأحرف التي أتقنت لفظها " ب ب ، م م ، ت ت "
فأختزل كلّ الجهد المبذول لمؤلفِ ما بأحرفي البسيطة وأشعر بالانتصار.
ولكن يا للأسف كنتُ أقصر من أن أطال كلّ ذلك المجد وكان أبي أحرص من أن يفرّط بكنزه الخاص وكتبه الثمينة ويجعلها في متناولِ طفلِة مشاغبة مثلي لا تقدّر قيمة الكتاب وتحاولُ عبثَا فهم العالم حولها ببعض محاولاتٍ ساذجة.


أمّا أنتَ فقد كانت قصتك مختلفة لكنها مُحبطة هي الأخرى ، فعلى العكس مني ، كم حاولَ والداك أن يدسّا وجهك بين دفتيّ كتاب ، في كل فرصة تسنت لهما .
-         تريد أن تخلد إلى النوم ؟ اصطحب كتابًا معك وسيكون خير أهزوجة تغفو على إيقاعها.
-         مللتَ من مشاهدة التلفاز ؟ اقرأ كتابًا فهذا أنفع لكَ حتى تزداد ثقافتك وتتسع آفاق معرفتك وتُثري مخيلتك.
-         تُريد أن تلعب مع الرّفاق ؟ حسنًا ولكن انتهي من وردك اليوميّ في القراءة وستكون مكافأتك ، قضاء وقتٍ أطول  معهم.
-         - حان موعد الرحلة الأسبوعية للعائلة ؟ لا تنسى أن تأخذ كتابك حتى تستثمر وقتك إلى حين الوصول إلى الوجهة المحددة.
وهكذا تضيق أنفاسكّ كلما رأيتَ كتابًا ما ، فتختنق بتوجيهات الضرورة والوجوب والإلزام ،  وتضيع رغمًا عنك ، الحياة التي أردت أن تعيشها طفلاً ، طفلاً يُمارس الحياة دون أن يشعر بأنّ هناك ثمنٌ مقدمٌ أو موخرٌ يشق عليه ويجب دفعه.


مهلاً وأنتَ قبل أن تهرب دعنا نتحدّث قليلاً عن مأساتك ، أنت الذي تعتبر القراءة فعل مقاومة لكل عوارض الحياة ، تقاوم الملل بالقراءة ، تقاوم الحزن بالقراءة ، تقاوم العجز بالقراءة ، تقاوم الوحدة بالقراءة ، تقاوم الخوف بالقراءة ،  فالقراءة توفّر لك منافذ الهرب الممكنة من الحياة وإليها.
ثمّ تضطر لسماع تعليقاتٍ قاسية من الكبار ، من قبيل : أنت تُنهك نفسك بالقراءة  ، تضعف نظرك وتخفض مستويات صحتك ، وتقلّص دائرة علاقاتك الاجتماعية وتجنح للعزلة ، ويتراجع مستواك الدراسي. إذن عليك الآن أن تتوقف !
نعم تتوقف عن القراءة.
يصدرون قرارهم ويذهبون ، دون أن يتريثوا ليفهموا أنهم بهذا يصادرون حقك في المقاومة ، أنهم من ينهكك الآن فعلاً ويجرّدك من سلاح مقاومتك الوحيد.
فكيف ستقاوم مأساتك الآن ؟


إلى الكبار الذين لا يقدّرون محاولات طفلٍ يريد أن يقرأ أو يرفض ذلك
إليهم هم الذين يشابهون بعضهم ويتشابهون في قسوتهم حينما لا يفهمون المغزى وراء هذا المقطع لدانيال بناك من كتابه " متعة القراءة "
" لا يتحمّل فعل - قرأ – صيغة الأمر. وهو اشمئزاز تشاطره إيّاه عدّة أفعال أخرى ، كفعل " أَحَبَّ "  .... وفعل " حَلَمَ " طبعًا تبقى المحاولة ممكنة ، هيّا لنحاول
( أحبّنِي ، اِحلَم ، اقرَأ ) !"
ليكرر الكبار الذين أقصدهم ذلك المقطع أكثر من مرة ، حتى يشعروا تحديدًا بما تخلّفه قسوتهم على الأطفال حين يستخدمون فعل " القراءة " بصيغة الأمر ونهيه.

قساةٌ أنتم إذ تصادرون حقّ الأطفال حين تقفون عائقًا بينهم وبين كلّ ما يحاولون الوصول إليه ، حتى يلمسوه ويتحسسوه ، ويشتمّوه ، ويتذوقوه ، ككل شيء حولهم ، كالكتبِ مثلاً في محاولةِ ربما تكون ساذجة وعابثة لكنها بالتأكيد ستساعدهم في فهم جزءٍ من العالم وربما قد تؤسس لعلاقة وطيدة بينهم وبين المكتبة في يومٍ ما.

قساةٌ أنتم حين تحاولون جبرًا خلق علاقة ما بين الأطفال والكتب من باب الثقافة والمعرفة و دعاوى أخرى واهية لا يستطيعون فهمها ولا الإيمان بها وكل ما يعرفونه أنّها تقيّدهم وتختزل كل الحياة التي يتشوقون لخوضها بين دفتيّ كتابٍ هزيلٍ يقتطع من أعمارهم ، ولا يستوعب أحلامهم ، فإنّ لمّ تكن المتعة بمختلف ضروبها هي الباب الأوّل الذي يدلفون منه إلى القراءة وعالم الكتب ، فقد يكون عمر العلاقة التي تؤسسون لها قصير وقلما يثمر.

قساةٌ أنتم ، حين تحمّلون فعل القراءة أوزاركم ، فالأطفالُ الذين يتعاملون مع الكتاب كصديق يدفع عنهم كلّ مالا يطيقونه من عوارض الحياة ، منكم أنتم في بعض الأحيان ، يضعفون ، يتهاوون ويسقطون إذا ما جُرّدوا من سلاحهم الوحيد ، فهل تزيدون على أوزاركم وزرَ طفلٍ يحيا ليقرأ ، ويقرأ ليحيا.