أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الجمعة، 25 أغسطس 2017

المكتبة في أقرأ 2017

" إلى من قطف الكلمة من شتى حدائق المعرفة ولم تكفيه ، رحلة في البستان لعلها ترضيه "
وصلني بريدي على جناح حمام الدهشة الزاجل ، حمام أقرأ ، حمامُ الحُلمِ الذي لا زلتُ ارتوي من كفيه ، وبكل البهجة أقلّب ناظريّ في تفاصيله الماثلةِ أمامي ، ما تخيّلته ذات يوم وما لم أتخيّله حتى اليوم.

جنّة القارئ في الأرضِ مكتبة ، لا يهمّ اسمها ولا مكانها ولا حجمها ولا عدد الكتبُ بها ، يكفيهِ أن يدخل إليها ، أن يُصاب بالدهشة أمام الأبجدية الواحدة التي يحفظها جيّدًا ، ولكنها ومع كلّ رفّ وفي كلّ كتاب تمنحهُ فضيلة إدراكِ أنه لم يعرف شيئًا ، لا يعرفُ شيئًا ، وسيعرفُ أشياءَ كثيرة.

دخلنا إلى جنة المتنبي ، مكتبة المتنبي ، إحدى المكتبات العظيمة في مدينة الدمام ، دخلنا إليها جمعًا ثمّ صرنا أشتاتًا وكلٌ في فلكه يسعى ويبحث ، كلّنا كان ذاك القارئ العاجز ، التائه ، العاجز أمام كلّ هذه المعارف والعلوم ، العاجز إذ يغرق بينها وهو يُدركُ جيّدًا أنّ هذا الغرق هو احتمال نجاتِه الوحيد ، التائه إذ يمتدّ بصره في كلّ الاتجاهات ولا يدري من أين يبدأ وإلى أين سينتهي.

كلٌ كان يُمارسُ طقوسه الخاصة دون أن يشعر أنه نتوءٌ شائهٌ في وجه العالم ، فالكلُّ حولك يعرف أنّك قارئ ، لا تحتاجُ لنظارتين تثبتان أهليّتك لممارسة طقوسك في اقتناء كتابٍ ما ، الكلُّ حولك يفهم سبب صرخة الاحتفاء المفاجئة التي تُطلقها لتعبّر عن عثورك عن كنزك الخاص ، ذاك الكتابُ الذي أمضيت وقتًا طويلاً في البحث عنه ، ثمّ هو وبكل زهوٌ يتجلّى بمكرماتهِ عليك إذ تجده ، الكلُّ حولك يقدّر تصرفك العاديّ جدًا إذ تُمسك كتابا وتقلّب صفحاتِه سريعًا بمحاذاةِ أنفك حتى تنتشي برائحته وهي تنتشر رويدًا ، رويدًا في صدرك ، والكلُّ حولكَ سيصرخٌ مغتبطًا بإنجازك العظيم لأنّ حصيلتك من الكتب تجاوزت ميزانيتك وقدرتك المالية ، لن يوبخك أحدٌ منهم بدعوى التبذير وإضاعة المال ولكنك حتمًا ستكون مستهدفًا ، ومحط أنظار الجميع أيُّها القارئ الثريُّ بما تملك ، الغنيُّ بكتبك.

وإذا كانت جنّة القارئ مكتبة ، فنعيمهُ فيها أنّ يكون الكلُّ حوله مشابهون له في عاديّته ، يقدّرونها ، يفهمونها ، وتكون كل صرخة دهشة يُصدرها أحدهم مقطوعة يكملها الآخر دون أن يمرّ صمتُ اللادهشة ، كنشازٍ يُفسدُ كل ذاك النعيم.

كان اقتنائي  لديوان الأهلة للشاعر محمد عبد الباري تحيّة دخولي إلى تلك الجنة وحينَ تجاوزت كتبي الميزانية المسموحة كان لزامًا عليّ الاستنغناء عن بعض الكتب ، ففعلتها وأنا أتوجّع وأسأل الله العوض فيما استغنيتُ عنه ، وكان آخر كتابٍ أبقيته بحوزتي هو العمل التطوعي بين الواقع والمأمول ، لتكون حصيلتي مزيجًا بين الأدب ( رواية وشعرًا ) والمعارف المتعلقة بتخصصي ( علم النفس والمعارف الاجتماعية ).

خرجنا من تلك الجنة متّجهاتِ إلى " مكتبة القهوة " أحد المقاهي لنتممّ صورة القارئ الذي يحمل بإحدى يديهِ كتابًا وبالأخرى كوبًا من القهوة والمتعة.
تجربة تواجدي في أقرأ هي إحدى تجاربِ العُمرِ الذي يمنحنا نُضجًا لا يتأتّى بغيرها ، في أقرأ عرفتُ أنّ القارئ شخصٌ عاديٌ جدًا ميزتُه الفريدة أن يعرفُ أنه لا يعرف وقدرته الخارقة الوحيدة أنه لا يحتاجُ كتابًا ليقرأ ، ولكنّه يُجيدُ الولوج إلى العمق الكامن خلف الأشياء وفي قلب العالم ، يُتقن حرفة صناعة التأويلات المتعددة لكل ما يقرؤه ، وتستثيرهُ كلّ علامات الاستفهام للبحث عن إجاباتها المحتملة.


0 التعليقات:

إرسال تعليق