"
إلى من قطف الكلمة من شتى حدائق المعرفة ولم تكفيه ، رحلة في البستان لعلها ترضيه
"
وصلني
بريدي على جناح حمام الدهشة الزاجل ، حمام أقرأ ، حمامُ الحُلمِ الذي لا زلتُ
ارتوي من كفيه ، وبكل البهجة أقلّب ناظريّ في تفاصيله الماثلةِ أمامي ، ما تخيّلته
ذات يوم وما لم أتخيّله حتى اليوم.
جنّة
القارئ في الأرضِ مكتبة ، لا يهمّ اسمها ولا مكانها ولا حجمها ولا عدد الكتبُ بها ،
يكفيهِ أن يدخل إليها ، أن يُصاب بالدهشة أمام الأبجدية الواحدة التي يحفظها جيّدًا
، ولكنها ومع كلّ رفّ وفي كلّ كتاب تمنحهُ فضيلة إدراكِ أنه لم يعرف شيئًا ، لا
يعرفُ شيئًا ، وسيعرفُ أشياءَ كثيرة.
دخلنا
إلى جنة المتنبي ، مكتبة المتنبي ، إحدى المكتبات العظيمة في مدينة الدمام ، دخلنا
إليها جمعًا ثمّ صرنا أشتاتًا وكلٌ في فلكه يسعى ويبحث ، كلّنا كان ذاك القارئ
العاجز ، التائه ، العاجز أمام كلّ هذه المعارف والعلوم ، العاجز إذ يغرق بينها
وهو يُدركُ جيّدًا أنّ هذا الغرق هو احتمال نجاتِه الوحيد ، التائه إذ يمتدّ بصره في
كلّ الاتجاهات ولا يدري من أين يبدأ وإلى أين سينتهي.
كلٌ
كان يُمارسُ طقوسه الخاصة دون أن يشعر أنه نتوءٌ شائهٌ في وجه العالم ، فالكلُّ
حولك يعرف أنّك قارئ ، لا تحتاجُ لنظارتين تثبتان أهليّتك لممارسة طقوسك في اقتناء
كتابٍ ما ، الكلُّ حولك يفهم سبب صرخة الاحتفاء المفاجئة التي تُطلقها لتعبّر عن
عثورك عن كنزك الخاص ، ذاك الكتابُ الذي أمضيت وقتًا طويلاً في البحث عنه ، ثمّ هو
وبكل زهوٌ يتجلّى بمكرماتهِ عليك إذ تجده ، الكلُّ حولك يقدّر تصرفك العاديّ جدًا
إذ تُمسك كتابا وتقلّب صفحاتِه سريعًا بمحاذاةِ أنفك حتى تنتشي برائحته وهي تنتشر
رويدًا ، رويدًا في صدرك ، والكلُّ حولكَ سيصرخٌ مغتبطًا بإنجازك العظيم لأنّ حصيلتك
من الكتب تجاوزت ميزانيتك وقدرتك المالية ، لن يوبخك أحدٌ منهم بدعوى التبذير
وإضاعة المال ولكنك حتمًا ستكون مستهدفًا ، ومحط أنظار الجميع أيُّها القارئ
الثريُّ بما تملك ، الغنيُّ بكتبك.
وإذا
كانت جنّة القارئ مكتبة ، فنعيمهُ فيها أنّ يكون الكلُّ حوله مشابهون له في
عاديّته ، يقدّرونها ، يفهمونها ، وتكون كل صرخة دهشة يُصدرها أحدهم مقطوعة يكملها
الآخر دون أن يمرّ صمتُ اللادهشة ، كنشازٍ يُفسدُ كل ذاك النعيم.
كان
اقتنائي لديوان الأهلة للشاعر محمد عبد
الباري تحيّة دخولي إلى تلك الجنة وحينَ تجاوزت كتبي الميزانية المسموحة كان
لزامًا عليّ الاستنغناء عن بعض الكتب ، ففعلتها وأنا أتوجّع وأسأل الله العوض فيما
استغنيتُ عنه ، وكان آخر كتابٍ أبقيته بحوزتي هو العمل التطوعي بين الواقع والمأمول
، لتكون حصيلتي مزيجًا بين الأدب ( رواية وشعرًا ) والمعارف المتعلقة بتخصصي ( علم
النفس والمعارف الاجتماعية ).
خرجنا
من تلك الجنة متّجهاتِ إلى " مكتبة القهوة " أحد المقاهي لنتممّ صورة القارئ
الذي يحمل بإحدى يديهِ كتابًا وبالأخرى كوبًا من القهوة والمتعة.
تجربة
تواجدي في أقرأ هي إحدى تجاربِ العُمرِ الذي يمنحنا نُضجًا لا يتأتّى بغيرها ، في
أقرأ عرفتُ أنّ القارئ شخصٌ عاديٌ جدًا ميزتُه الفريدة أن يعرفُ أنه لا يعرف
وقدرته الخارقة الوحيدة أنه لا يحتاجُ كتابًا ليقرأ ، ولكنّه يُجيدُ الولوج إلى
العمق الكامن خلف الأشياء وفي قلب العالم ، يُتقن حرفة صناعة التأويلات المتعددة
لكل ما يقرؤه ، وتستثيرهُ كلّ علامات الاستفهام للبحث عن إجاباتها المحتملة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق