كانت إحدى أهم وأمتع تجاربي الشخصية تجربة ذهابي إلى سجن النساء العام
خلال الفصل الدراسي المنصرم لحضور حفل ختام أنشطة زميلاتي الأخصائيات الاجتماعيات
المتدربات فيه ، دخلتُ إليهِ وأنا مذهولةُ
منه ، أتحسس المكان بفكري جيدًا ، أتمعن فيه وأحاول المقاربة بين الصور التي
ارتسمت في مخيلتي إثر قراءاتي في أدب
السجون تارة وتارة أخرى إثر ما شاهدته في بعض المسلسلات التلفزيونية ، وأتسآل أي
الصور أصدق وأكثر واقعية ؟ ما الفوارق ؟
بحثتُ عن الإنسان المسلوخ عن إنسانيته ، الإنسان الذي يُعامل كرقم ،
زيادته بلاء ونقصانه خيرة ونعماء ، بحثتُ عنه هو المغتال في كرامته حدّ أنّ الترف
الوحيد الذي يطاله هو الاعتراف بوجوده كرقمِ فقط ، هو ليس ابن أمه أو أبيه هو ليس
ما كانه أو يكونه هو الرقم 1 أو 2 ، أو 3 حسب وقتِ وصوله إلى رحاب السجنِ.
بحثتُ أولاً عن قصة تشبه قصة عزيز الذي حكى عنه الطاهر بنجلّون في
رواية تلك العتمة الباهرة أحد المعتقلين في سجن تزمامارت في صحراء المغرب البعيدة
، البعيدة.
قصة تشبه قصته وقصص زملائه
المعتقلين الذين كانوا يتساقطون واحدًا تلوَ الآخرِ من فرط الطعنات المتوالية على
حقهم في الحياة ، بدءًا بالزنزانات الصغيرة التي يبلغ طولها 3 أمتار وعرضها مترٌ
ونصف لها سقفٌ منخفض يتراوح ارتفاعه بين مثة وخمسين ومئة وستين سنتميترًا حيث لم
يستطع عزيز حتى أن يقف فيه وفي أحد زوايا الزنزانة كانت حفرة التبوّل والتبرز –
أكرمكم الله - يقول عنها في الرواية
"
كانت جزءًا من أجسادنا ، والأفضل أن نسارع إلى نسيان وجودها ، لكي نكف
عن اشتمام روائح البراز والبول ، لكي نتوقف عن الشمّ إطلاقًا . ولكي نفعل لا ينبغي
أن نسدّ أنوفنا . لا ، إطلاقًا بل ينبغي أن ندع أنوفنا مفتوحة ونتوقف عن الشم
"
وفي مقطعٍ آخر " كان كل شيء محسوبًا بدقة ، إذ يحق لكلٍ منّا
خمسة ليترات من الماء يوميًا.
من أوحى إليهم بهذا الرقم ؟ الأرجح أن أطباء قد أشاروا عليهم
بذلك.وبأية حال ـ لم يكن الماء صالحًا للشربِ تمامًا. كنتُ أملك كرازًا من
البلاستيك أسكب فيه الماء وأدعه يومًا كاملاً ليرسب وقد تجمعت في قعر الكراز طبقة
من الوحل والقذارات.
توقفتُ أفكر في هذا المقطع محاولة استيعاب شناعة مكانٍ كهذا ، محاولة
فهم سيكولوجية حرّاس المكان والقائمين عليه ، ففشلت.
وفي حين نقم عزيز على الظلام قائلاً في رواية تلك العتمة الباهرة
" هناك أنماط للصمت في السجن وذكر منها الصمت الأشد قسوة والأشدّ وطأة ، كان
صمتُ النور. صمتٌ نافذٌ ومتعدد.لحظات صمت النور ، غيابه المتمادي الذي لا
ينتهي"
إذ يمجّد ظلام الليل في مكانٍ وزمانٍ مختلفين الدكتور أيمن العتّوم في
تجربة سجنه التي حكاها في رواية ( يا صاحبيّ السجن) قائلاً " في الليل كنتُ
أرى الأشياء بوضوحٍ أكثر، حرصتُ أن أعاين ذاتي في عتمة الليل؛ لأنها تتبدّى هناك
جليّة بمراحل قياسًا على ما عداه... ، في الليل استعضتُ عن البصر بالبصيرة لأتلمس
الدرب ، وحدها البصيرة لا تكذب ... فعندما تنظر بعيون القلب ترى الأشياء على
حقيقتها "
أقفُ هنا أيضًا وأمعن في فهم العلاقة بين الليل والسجن والعزلة والصمت
وبين هذا الاستجلاء والوضوح الكامل في الاستماع إلى الذات وفهمها ، أتذكر بعض
اللحظات التي أمرّ فيها فأفكر مليًا بإمكانية الهرب إلى مكانٍ بعيد ، بعيدًا عن
الناس وأصواتهم قريبًا جدًا مني في حضرة الصمت والعزلة.
ومع استحالة فكرة كهذه أقارب أكثر بين هذه الفكرة والحال التي أكون
عليها في بعض أوقات عزلتي البسيطة ، فأفهمُ إلى أي مدى يمنحنا البعدُ عن الآخرين –
حين تستوجب الضرورة أو نستجلبها – صفاءً نرى من خلاله أنفسنا بجلاء ونسمع صوتها
الضائع في حضرة صخبهم بوضوح ، أفهم إلى مدى تمنحنا العزلة فرص الإصلاحِ والتشذيب
لذواتنا وتطهير ما علق فيها من شوائب في غمرة وجودنا المستغرق مع الآخرين حولنا.
أفهمُ أنّ السجين يمتلكِ ميزة يفتقدها الكثيرون ، فيكررون أخطاءهم ويقفون مكانهم
ويجترون أفكارهم الباليّة بتكرار مشين.
خلال تجربتي في زيارة سجن النساء ، قدّر لي أن ألتقي بمجموعة من
نزيلاته ، لم تفصل بيني وبينهنّ القيود والقضبان ، مشين أمامي ، وجلسن خلفي لحضور
الحفل ، مررتُ بجانبِ إحداهن حين ذهبتُ لشرب الماء ، ابتسمت لي ، مدت إليّ كفها
مصافحةً ، رددتُ الابتسامة ومددتُ كفّي.
حينها تأكدت لي قناعتي التي طالما فكرتُ فيها وناقشتُ أبي حولها فدافعتُ
عن السجين كثيرًا ، دفاعًا لا يبرر فعلته ولا يسوّع جريمته ، دفاعًا يقرّ
بإنسانيته فحسب. نعم يستحق العقاب وهذا حقّ الله ثمّ حقّ العباد.
لكنّه إنسان ، متأكدة أنه بذل ما في وسعه لئلاّ يصل إلى هنا ، حاول
كثيرًا أن لا يتشوّه وألا يُدان.
لكن ضعفه أمام المال أو الانتقام أو أيًا ما كان ، هو ما ساقه إلى هنا
، لقد كان إنسانًا ضعيفًا طوّقته ظروف أهله أو أصحابه أو مجتمعه وإرادته كانت أضعف
من أن تواجه وتقاوم.
وبالعقاب قد يتعلّم كيف يصبح أقوى ، وبإرادة أكثر مقاومة ، وممانعة ، هو
إنسان معلول في نفسه والبعض في عقله وتفكيره، فالإنسان السليم المعافى لا
يقدم على أيّ من ذلك ،وبنظري أنّ المعلول يستحق المساعدة ليشفى ويعود أفضل مما كان
عليه.
أخيرًا لم يشبه السجن الذي زرته أيًا من تلك الصور لم يشبه سجن تلك
العتمة الباهرة ولا سجن يا صاحبي السجن ، لكنه كان حقيقيًا و واقعيًا مثلهم ،
وجدتُ فيه الإنسان المفجوع بنفسهِ أحيانًا والموجوع منها في أحايين أخرى ، وجدتُه
هو الذي يمعن أخوه الإنسان في نكئ جرحه مرارًا وتكرارًا ، إن لم يكن داخل السجن ،
فخارجه ، أينا يقدر أن يمنح السجين بعد خروجه من السجن فرصة ميلادٍ ثانية لولوجه
إلى الحياة من جديد دون أن يقصيه عنها ؟ أينا يستطيع أن يمنحه فرصة أن يكون مرة
أخرى ، جاره أو أخوه أو أبوه أو عمه أو خاله أو أمه أو ... ؟ فرصة نقية خالصة لا تشوبها حتّى شائبة نظرات
الريبة والإزدراء. في ماذا تفوقنا عليهم نحن الممتلؤون بالأخطاء الظاهر منها و
الباطن ؟
في ماذا تفوّقنا عليهم إن كان البعض منهم أخطأ في حق العباد مرة ويخطئ
البعض منّا في حقّ ربّ العباد مئات المرات ؟ بقدر صدق المرآة التي تعكس لنا عيوبنا
وأخطاءنا دون تهوينٍ أو تأويل ، نكون أقدر على العفو والصفح والغفران ، هذا ما
أعتقده.
أختم بلسان السجين المرحوم رفيق عزيز في تلك العتمة الباهرة الذي قال
قبل وفاته في إحدى لحظات عبوديته الخالصة لله " أنا موجود لأصلّي لا لأُدين
البشر "
0 التعليقات:
إرسال تعليق