أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الجمعة، 14 يوليو 2017

قراءة الإنسان






أبدأ بشكري للأستاذ عويّد السبيعي الذي استعنتُ مرة بمقطع له على " اليوتيوب " يتحدّث فيه عن تجربته مع  القراءة وكيف غيرت أفكاره وختمه بعبارة " القراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة " فعرضتُه على فتيات في المرحلة المتوسطة إثر برنامج آكام2 الذي قدمناه أنا وصديقاتي بهدف
"التوعية بمسارات بناء الحياة المتوازنة في مختلف المجالات بطرق عملية لاستغلال الطاقات وتوجيهها".
أشكره لأنّه جعل عبارة كالقراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة ،تعلق في ذهن فتاة في هذا السنّ لتسجلها بحماسة ضمن ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي في آكام تحت بند " أهمّ المعارف التي اكتسبتها "
وعدتُ بذاكرتي إلى ما قبل الست إلى السبع سنواتٍ ، حين كنتُ بعمرهنّ ولم أكن أعرف عن القراءة سوى أنّها سمة المثقفين وكثيري الاطلاع هذا المعنى الجافّ، اليبس ،  الذي يحمل في طيّاته بعض الاستعلاء أو هكذا أشعر ، حتى أنني بسببه  اعتقدتُ حينها أنّ آخر ما يمكن أن أجيد فعله في حياتي هو القراءة ، فما حيلتي وأنا أنظر إلى كتاب من 150 صفحة وأفكّر من أين سأجد نفسًا طويلاً يساعدني على قراءة هذه الصفحات كلها ؟ ثمّ من أين لي بعقل مستنيرٍ يستوعبها كلها ؟ ثمّ من أين لي بوقتٍ يجعل من هذه العملية الثقيلة عادة ممتعة ومتنامية ؟ أعتقد أن تلك كانت أحد مخاوفي التي منعتني من ممارسة القراءة في سن مبكرة ، فلا توهنوا همم الأطفال الخصبة ، الطريّة بمثل هذه المعاني التي لن تثمر فيهم ولن تؤتي أكلها ، لا ترهقوهم بتلك العبارات الرنانة ذات القامات الشاهقة التي لن يفلحوا في الوصول إليها ، بل إنها تفوق حتّى أكثر أحلامهم عذوبة وعلوًا.
وبرغم أني بدأتُ القراءة بمعناها اليبس متأخرًا في بدايات المرحلة الثانوية طلبًا للثقافة وسعة الاطلاع، إلاّ أنّ القراءة انتصرت عليّ مؤخرًا حينما بثت نفسها فيّ بمعناها الحيّ ، عندما جعلتني أطرق أبواب المحاولات دأبًا ، فتارة أحاول قراءة نفسي وتارة أحاول قراءة الآخرين،  في الحقيقة كثيرًا ما حاولتُ قراءة الإنسان بتواطؤ ضمني بين تخصصي وفعل القراءة هذه العلاقة ذات الخيوط الوثيقة الرفيعة التي اكتشفتها أخيرًا، حيث صرتُ أبحث عن الإنسان خلف الوجوه والتجارب أبحث عن أسراره وأسبابه وحكاياه أبحث عنه عميقًا وبعيدًا ، أبعد من رمق نظره وأعمق من ملامح وجهه .
 لا أنكر أني تطلعتُ لمشابهة المرآة التي وصفها الأستاذ حجي جابر في روايته الأخيرة لُعبةُ المغزِل حين قال "لا أحد ينظر في المرآة لذاتها فالكل يبحث عن ذاته فيها ، عن صورته الصادقة.
لكن هل هذا أقصى ما تستطيعه المرآة ؟
ماذا لو كان بمقدورها أن تعرّي دواخلنا كما تفعل مع ملامحنا الظاهرة ؟ أن تكشف ما نخبئه تحت جلودنا ؟ ما نخبئه عن أنفسنا قبل الآخرين ؟ هل سيستمر تصالحنا المريح معها ؟"
وينتهي هنا ، لكن هناك تتمة لهذا المقطع طرقت رأسي كثيرًا فسجلتها على الهامش :
ماذا لو امتلكت المرآة القدرة على تقبلنا كما نحن والتماس الأعذار لنا دائمًا حتى بعد أن نفتضح أمامها ؟ ماذا لو كان بمقدورها أن لا تقع في فخاخ توقعاتها عنّا لتقولبنا وتنمذجنا كيفما شاءت وألا تحاسبنا على هذه التوقعات أو خيباتها فينا على إثرها ؟ هل سنمتلك خيارًا آخر غير التصالح معها عندئذ ؟
لا أعتقد.
فعلاً أغرتني هذه المرآة لمشابهتها ، ما أغراني أكثر أنها تمتلك كثيرًا من مقوّمات الأخصائي الاجتماعي
الذي يمثل مهنة الخدمة الاجتماعية وهذا هو التواطؤ الذي قصدته بين تخصصي وفعل القراءة ، هل هذا يعني أني إن كنت هذه المرآة التي تجيد فعل قراءة الإنسان على هذه الشاكلة فسأكون أخصائية اجتماعية جيّدة ولو إلى حدٍ ما ؟ نعم أعتقد.
فالبحث في الأسباب والحفاظ على الأسرار وتقبل الإنسان جملة وتفصيلاً هي مبادئ أساسية في تخصصي.
ثمّ ونحن نمارس فعل القراءة يتوهم من يظن أننا نتعامل مع نصوصٍ مجرّدة إننا أيضًا نتعامل مع الإنسان وأسراره وأسبابه وحكاياه لكنها مدسوسة ، تختبئ خلف بساط الكلمات وجذوع الجمل و العبارات ، وأيّما فاعلية تلك لمن يتقن لعبة الغميضة حين يقرأ ، ليكشف عنها.
يقول الأستاذ حجي جابر في روايته لُعبة المغزل مرة ثانية على لسان الجدة الحكواتية قائلة لحفيدتها"
" الحكايات لا تأتي من الخارج ، حتى لو كانت تخصّ آخرين وإننا حين نشعر بنضوبها ، يكون داخلنا هو الذي توقف عن رؤية الأشياء بطريقة مختلفة "
أعتقد أنّه اعترافُ ضمني من الكاتب بأنّ كل كتاب هو جزء من تجربة ما أو رؤية ما لكاتبه ، وبهذا الاعتراف أجد أنني مدفوعة لممارسة فعل القراءة بشغف وانتباهٍ أكبر ، بحثًا عن الإنسان وأسراره وحكاياه
هل أصبح التواطؤ بين القراءة وتخصصي صريحًا الآن ؟!
أخيرًا أهنئ الجميلة التي علقت في ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي بعبارة "أشعر بعد هذا اللقاء أني بحاجة إلى زيادة وقت القراءة"  لأنها سبقتني في سنها باكتشاف سر القراءة كحاجة وضرورة.
أهنؤها ثانية لأني بما التمستُ منها من علاقة واعية بينها وبين القراءة أستطيع التنبؤ بأنها ستكتشف مبكرًا عندما تكبر قليلاً بأننا تجاوزنا مرحلة الحديث عن أهمية القراءة
وأنّ عليها حينئذ أن تجد الطريق الذي تجيب من خلاله عن سؤاليّ ماذا ستقرأ ؟ وكيف تقرأ ؟
لأنّ العمق الكامن خلف هذين السؤالين هو الذي يمنح فعل القراءة حيويته وفاعليّته.

وأنا اخترت قراءة الإنسان حيثما أجده. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق