أمسكت يد أخي الصغير ومضيت أمشي دون وجهة محددة ، كنت أعتقد أن الكون يستطيع مشاركتي همي هذه المرة كما فعلها سابقا ، لكني جهلتُ ما هية الهم ونوعه وأنه أثقل من أن يحتمله ظهر الأرض أو يدفنه صدر السماء .. إنه الرحيل و أنة الفقد .. لا زلت أذكر معالم وجه الثلاثاء الماضي وكأن اللقاء جمعنا اليوم ولم تطوِه بضع أيام ، كيف صحوت من نومي فزعة على إثر صراخ أمي وهي تقول .. : " هيّا أصالة ، أصيل ، باسل ، بسّام أسرعوا فجدتكم تُنازع " أدركت حينها أنها نفضت يديها من شؤون أهل الأرض وتبرأت من حيواتهم ، إنها على وشكِ أن تحزم أمتعتها وتُدير ظهرها للحياة بلا وداع ولسان حالها يقول إلى الرحمة إلى ربي إلى الحياة الحقة ، غير مأسوفٍ على حبة الدنيا الضئيلة .. ، كنا نركض ونتخبط ، كنا أسرع حينها من قدرة العقل البشري على استيعاب ' فكرة الموت ' ومضينا ، كنا نبكي بصمت في السيّارة ونمسح دموعنا بشدة رافضين الاستسلام لهذه الفكرة ، كانت في داخل كل واحد منا قصة تبدأ به وتنتهي بجدتي ، أما أنا فكنت أحاول جاهدة استساغت الفكرة وتخيل جميع الأماكن التي كانت تمتلئ بها الآن دونها ، بسام كان يوبخ أبي بقلة حيلته : أبي أسرع ، أسرع لماذا أنت بطيء هكذا ! وبعد هنيهة إذ بنا في حي بيت أختها الذي تجلس فيه جدتي ، مرت من جانبي سيارة إسعاف العادة عندما أراها ينكمش قلبي حزنا وأدعو لمن فيها، لكن هذه المرة مختلفة فقد سقط قلبي بأكمله ، لكن السيارة لا تصدر صوت إنذارها ، إذن ليس هناك أحد فيها، أها أكيد أن جدتي بخير ولا حاجة لها بالاسعاف و هم المشفى ، وصلنا إلى المنزل ، كل منا فتح بابه وجرى ، دخلنا المنزل سارعنا إلى غرفتها ، " جسد ممدد على السرير وأصوات بكاء تتعالى وإنارة الغرفة بأكملها لم تكن كافية لتضيء ليلة قلبي المدلهمة من غمة الحزن ، كانت الفكرة أكبر من أتلقاها وقدماي شامختان على الأرض ، تهاويت بقوة ، وأكملت مع المتواجدين معزوفة البكاء على الفقيدة كانت تشغلني فكرة واحدة .. لم أقل لها : مع السلامة لم أقبلها وأودعها قبل أن ترحل ، لم تمنحني تلك الفرصة وذهبت ، كانت هناك حرقة تأكل صدري وتجعله أجوفٌا رغم برودة الغرفة التي أحسست بأنها نار مضرمة تزيد من الحرقة داخلي ً كانوا يبكون حولي وأمي كعادتها لا تملك القوة أمام صدمات الفقد ، فتتهاوى في كل مرة أشد عن سابقتها وتزيد وجعنا وجعًا وألف ! أما ذاك الجسد الملقى علئ السرير فقد أصبح قبلة المتواجدين وبعد قليل تحمله الأيدي ويخرج أمامي على خشبة مكتوب عليها ' مغسلة الأموات الخيرية .... ' أموات ؟ من الذي مات ؟ أصلا ما هو معنى الممات ؟ نصف إجابات هذه الاسئلة وجدتها في وجه جدتي يعد غسيلها عندما هممت بتقبيل رأسها ، عيناها كانت مغمضتان و وجهها مسترخٍ قلت لها : مع السلامة جدة مع السلامة .. أها إذن جدتي هي التي ماتت ! عدنا إلى المنزل وبدأت أيام العزاء يوما يتبعه الآخر وفي كنف كل يوم كنت أجد جزء من إجابة سؤالي ما معنى الممات ؟ إنه الفكرة التي تكبر الأحياء كثيرًا ، بالرغم من إيمانهم بحقيقة وقوعها وأنهم يتمنون مجيئها على المحاسن والفضائل ، إلا أنهم يعجزون عن فهمها وإدراكها والدليل ، أنهم يملكون القدرة على ترميم قلوبهم بعد كل فقد واستعادة القدرة كاملة على العيش والحياة من جديد وكأن شيئا لم يكن إلا فيما ندر حتى وإن كانوا يذكرون أمواتهم بين الفينة والأخرى يظل معنى الموت قاصر لدى كل حي ، مكتمل لدى كل ميت ، ليسأل كل واحد منا نفسه ! ماذا يعرف عن الموت ؟ وماذا يفهم منه ؟ وهل كان سيحيا الحياة نفسها لو كان يدرك معنى الموت كالذين ابتلعتهم بطن الأرض ؟ إن الأماكن بعدك خاوية يا جدتي صورتكُ لدي وبعض الأدوية الخاصة ، سأحادثك كلما اشتقت إليكِ وسلواي في فراقك أن الله رحمك من أوجاع المرض وآلامه وأسأله أن يجعله لك كفارة غفارة ، ويجعل قبرك روضة من رياض الجنان ويرزقك الفردوس بلا حساب ولا سابق عذاب ولأموات المسلمين جميعا مثل ذلك ، ' وجه الثلاثاء المنصرم ضيفٌ أوجعني حلوله فأسأت إكرامه ، سكّن الله تأنيب الضمير..
0 التعليقات:
إرسال تعليق