أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الخميس، 27 يوليو 2017

مرحلة المقابلات الشخصية في أقرأ 2017



كانت ساعة واحدة فقط ، ساعة سريعة ومدهشة ، لم تكفني لأتلمس كل شيء لأتأكد من حقيقيته ، اكتفيتُ بامتصاصه عبر بصري وها أنا أكتب مستعينة بما علق في ذاكرتي البصرية التي لا زلتُ أسألها إلى الآن هل كان كل ذلك واقعًا ؟
بدأ الأمر منذ اتصال مشرفة المسابقة على هاتفي المحمول لتهنئتي بترشيحي إلى المرحلة الثانية من مسابقة أقرأ 2017، وإعلامي بموعد ومكان عقد المقابلات الشخصية ، باستثناء السعادة اللحظية التي شعرتُ بها عند تهنئتها ، بعد ذلك غدا كل شيء عاديًا ولم آبه كثيرًا ، إلى أن جاءت ليلة الذهاب إلى المقابلة التي لم أشعر فيها بأي نوع من الحماسة أو الاهتمام ففكرتُ وعلام خوض تجربة أبدي تجاهها هذا الكم من اللامبالاة ! وبين شدّ الأفكار وجذبها ، قررتُ الذهاب بتلقائية تامة ، وحين وصلتُ إلى الفندق واستقبلنا أحد الأعضاء القائمين على المسابقة ، وأعلمنا بضرورة توقيع بعض التعهدات ، حينها فقط بدأت مشاعر الحماسة تجاه تجربة جديدة ثرية بالتدفق داخلي ،وكأن لامبالاة الأمس كانت قرارًا اتخذته لأحتفظ بكلّ مشاعري إلى وقت خوض التجربة حتى لا أستنفذها وتحضر كاملة، صعدنا إلى الأعلى أنا وباقي المرشحات مع إحدى المشرفات ، وجّهتنا لدخول غرفة امتلأت بالمشتركين والمشتركات في حضرة مشتركتين لهما تجربتهما السابقة في المواسم المنصرمة من المسابقة ، حيث أنهما كانتا تطرحان بعض الأمثلة للأسئلة التي يمكن أن تُطرح علينا ، وتشرحان مراحل المسابقة مما خفف التوتر البادي على وجوه الجميع ، وأثناء الانتظار تعرّفت على أحلام المشتركة التي كانت بجانبي والتي جمعتني بها صدفة أن نكون من نفس الجامعة ونفس الكليّة وهذا الخيط من الانتماء إلى مكان واحد سرّع حضور الألفة بيننا وتداول بعض الأحاديث وتشارك شرب " الكابتشينو " إلى حين حضور المشرفة مجددًا باحثة عني ، أصالة ؟ أين أصالة ؟ نعم إنها اللحظات التي يشكل فيها وقع اسمي على أذنيّ جرس إنذار يؤذن بقرب ساعة الصفر والإثارة.
ذهبتُ معها وقبل دخولي إلى غرفة ثانية سألتني أمستعدة ؟ فقلتُ لها كمن أمضت ليلتها كاملة في الاستعداد لهذه اللحظة – ولم أفعل ذلك طبعًا – نعم مستعدة ، فتحت لي الباب ، دخلتُ ، انبثق النور وبدأ كل شيء ...
جلستُ على طاولة وكرسي في مقابل 4 أساتذة كرام من اليسار أستاذتين وأستاذين ، ومصورين أحدهما يستخدم " الكاميرا " الواقفة والآخر يلتقط الصور بين الفينة والأخرى ، وفي حين أنها كانت المرة الأولى التي أكون فيها القِبلة الوحيدة في حضرة " الكاميرا " أنا التي سمعتُ مرارًا عن رهبة تلك اللحظة وهذا التركيز القادم من عدساتها لم أكن منتبهة لها إلى هذا الحد في حضرة الحوار الماتع الذي كان قائمًا بيني وبين الأساتذة ، بدأت الأستاذة التي تجلس ثانيًا من اليسار في توجيه أول سؤال " عرّفي بنفسك يا أصالة وعلاقتك بالقراءة "
حضرت اللغة حضورًا يعرفُ مكانه جيّدًا ويحترم ميعاد حلوله ، عرّفتُ باسمي وتخصصي ومشاركتي التي استخدمتها في التسجيل في المسابقة ، وانتقائي لذاك الكتاب تحديدًا ، تحدّثتُ وتحدّثتُ حتى بان في حديثي ذاك الانتماء العميق لعائلة البرغوثي وكان هذا تعليقًا من أحد الأساتذة عليّ ، وفجأة وجدتني أتحدّث عن الشعر ، عمن أقرأ لهم بدأت بالشاعر السوداني محمد عبد الباري ، حينها فقط ومن نظرة الانتشاء الواضحة في عين آخر الأساتذة من اليمين أدركتُ أنه ذو أصول سودانية ، وكأنه كان يقول : نعم هذا ابننا.
وتحدّثت عن ابنهم وعن أحمد بخيت عن قصيدة مالم تقله زرقاء اليمامة للأول وعن قصيدة رام الله للثاني ، كانت بهجتي حاضرة بقوة في كل ذلك ، كنت أعيش أحد خيالاتي ، كم تمنيتُ أن أكون أحد المشاركين في مسابقات الشعر أو اللقاءات الثقافية المعروضة على شاشات التلفاز ، أن أكون في حضرة من يفهم اللغة والشعر وفلسفتي حول الإنسان والنصوص التي أقرؤها ، ويشاركني كل ذلك. هناك وفي ذاك الحوار حدث كلًّ هذا ، كانوا منتبهين إلي، يسمعون ويستمعون ويسألون ويبتسمون ويطرحون تعليقاتهم بلطفٍ تام ، لم أكن في حضرة التقييم وإنما في حضرة أحد الأحلام .
سُئلتُ عن :
-        مجالات قراءاتي.
-        مريد البرغوثي الذي كان حاضرًا في مؤلف أثقل من رضوى لزوجته رضوى – كونه الكتاب الذي شاركتُ به -.
-        رأيي في العلاقة بين النتاج الأدبي وبين صاحبه فيما إذا كان أحد الذين ينتهكون قيم السلام والإنسانية.
-        أقرأ شعر من ؟ ورأيي في أطروحات الشاعرين محمد عبد الباري وأحمد بخيت وإلقاء كل منهما للقصائد.
آخر سؤال بدر من الأستاذة التي كانت تجلس أولاً من اليمين قالت لي : بما التمستُ فيك من روح الكاتبة يا أًصالة هل تكتبين ؟
كان سؤالها محرجًا ومؤلمًا لكني أجبت :
لا أرى أني كاتبة وإنّما هي محاولات كتابة في مدونتي.
فسألت عن ماذا تكتبين ؟
فأجبتُ عن التجارب والكتب وما أستلهمه من كلٍ منهما.
قبل أن أخرج قدمت لي الأستاذة توصية بقراءة ديوان محمد عبد الباري الجديد ، وقدّم لي الأستاذ توصية بقراءة أطروحات أخرى لأحمد بخيت.

وفجأة انتهى كل شيء ، خرجتُ من الغرفة ، من المكان الكبير ، من الفندق ، بعد ساعة واحدة من الدهشة والبهجة اللتان أشعر بهما وأنا أكتبُ الآن ، لكن الشيء الوحيد الذي لمسته ومتأكدة منه هو وجود أحلام معي في غرفة الانتظار لأني صافحتها ، لم ألمس مقبض الباب الذي انبثق منه النور لأن المشرفة هي من فتحته لي ، لم ألمس الكاميرات التي جلستُ في حضرتها ، لم ألمس الأساتذة الكرام ، لم ألمس أسئلتهم وابتساماتهم ولطفهم ، فهل كانت تلك ساعة حقيقية في عمري ؟ مذكراتهم التذكارية هي ما سيثبت لي دائمًا أني خضتُ هذه التجربة فعلاً ، عامي الـ 21 لا زال يدهشني.

الجمعة، 21 يوليو 2017

السجن





كانت إحدى أهم وأمتع تجاربي الشخصية تجربة ذهابي إلى سجن النساء العام خلال الفصل الدراسي المنصرم لحضور حفل ختام أنشطة زميلاتي الأخصائيات الاجتماعيات المتدربات فيه ،  دخلتُ إليهِ وأنا مذهولةُ منه ، أتحسس المكان بفكري جيدًا ، أتمعن فيه وأحاول المقاربة بين الصور التي ارتسمت في مخيلتي  إثر قراءاتي في أدب السجون تارة وتارة أخرى إثر ما شاهدته في بعض المسلسلات التلفزيونية ، وأتسآل أي الصور أصدق وأكثر واقعية ؟ ما الفوارق ؟
بحثتُ عن الإنسان المسلوخ عن إنسانيته ، الإنسان الذي يُعامل كرقم ، زيادته بلاء ونقصانه خيرة ونعماء ، بحثتُ عنه هو المغتال في كرامته حدّ أنّ الترف الوحيد الذي يطاله هو الاعتراف بوجوده كرقمِ فقط ، هو ليس ابن أمه أو أبيه هو ليس ما كانه أو يكونه هو الرقم 1 أو 2 ، أو 3 حسب وقتِ وصوله إلى رحاب السجنِ.
بحثتُ أولاً عن قصة تشبه قصة عزيز الذي حكى عنه الطاهر بنجلّون في رواية تلك العتمة الباهرة أحد المعتقلين في سجن تزمامارت في صحراء المغرب البعيدة ، البعيدة.
قصة تشبه  قصته وقصص زملائه المعتقلين الذين كانوا يتساقطون واحدًا تلوَ الآخرِ من فرط الطعنات المتوالية على حقهم في الحياة ، بدءًا بالزنزانات الصغيرة التي يبلغ طولها 3 أمتار وعرضها مترٌ ونصف لها سقفٌ منخفض يتراوح ارتفاعه بين مثة وخمسين ومئة وستين سنتميترًا حيث لم يستطع عزيز حتى أن يقف فيه وفي أحد زوايا الزنزانة كانت حفرة التبوّل والتبرز – أكرمكم الله -  يقول عنها في الرواية "
كانت جزءًا من أجسادنا ، والأفضل أن نسارع إلى نسيان وجودها ، لكي نكف عن اشتمام روائح البراز والبول ، لكي نتوقف عن الشمّ إطلاقًا . ولكي نفعل لا ينبغي أن نسدّ أنوفنا . لا ، إطلاقًا بل ينبغي أن ندع أنوفنا مفتوحة ونتوقف عن الشم "
وفي مقطعٍ آخر " كان كل شيء محسوبًا بدقة ، إذ يحق لكلٍ منّا خمسة ليترات من الماء يوميًا.
من أوحى إليهم بهذا الرقم ؟ الأرجح أن أطباء قد أشاروا عليهم بذلك.وبأية حال ـ لم يكن الماء صالحًا للشربِ تمامًا. كنتُ أملك كرازًا من البلاستيك أسكب فيه الماء وأدعه يومًا كاملاً ليرسب وقد تجمعت في قعر الكراز طبقة من الوحل والقذارات.
توقفتُ أفكر في هذا المقطع محاولة استيعاب شناعة مكانٍ كهذا ، محاولة فهم سيكولوجية حرّاس المكان والقائمين عليه ، ففشلت.
وفي حين نقم عزيز على الظلام قائلاً في رواية تلك العتمة الباهرة " هناك أنماط للصمت في السجن وذكر منها الصمت الأشد قسوة والأشدّ وطأة ، كان صمتُ النور. صمتٌ نافذٌ ومتعدد.لحظات صمت النور ، غيابه المتمادي الذي لا ينتهي"
إذ يمجّد ظلام الليل في مكانٍ وزمانٍ مختلفين الدكتور أيمن العتّوم في تجربة سجنه التي حكاها في رواية ( يا صاحبيّ السجن) قائلاً " في الليل كنتُ أرى الأشياء بوضوحٍ أكثر، حرصتُ أن أعاين ذاتي في عتمة الليل؛ لأنها تتبدّى هناك جليّة بمراحل قياسًا على ما عداه... ، في الليل استعضتُ عن البصر بالبصيرة لأتلمس الدرب ، وحدها البصيرة لا تكذب ... فعندما تنظر بعيون القلب ترى الأشياء على حقيقتها "
أقفُ هنا أيضًا وأمعن في فهم العلاقة بين الليل والسجن والعزلة والصمت وبين هذا الاستجلاء والوضوح الكامل في الاستماع إلى الذات وفهمها ، أتذكر بعض اللحظات التي أمرّ فيها فأفكر مليًا بإمكانية الهرب إلى مكانٍ بعيد ، بعيدًا عن الناس وأصواتهم قريبًا جدًا مني في حضرة الصمت والعزلة.
ومع استحالة فكرة كهذه أقارب أكثر بين هذه الفكرة والحال التي أكون عليها في بعض أوقات عزلتي البسيطة ، فأفهمُ إلى أي مدى يمنحنا البعدُ عن الآخرين – حين تستوجب الضرورة أو نستجلبها – صفاءً نرى من خلاله أنفسنا بجلاء ونسمع صوتها الضائع في حضرة صخبهم بوضوح ، أفهم إلى مدى تمنحنا العزلة فرص الإصلاحِ والتشذيب لذواتنا وتطهير ما علق فيها من شوائب في غمرة وجودنا المستغرق مع الآخرين حولنا. أفهمُ أنّ السجين يمتلكِ ميزة يفتقدها الكثيرون ، فيكررون أخطاءهم ويقفون مكانهم ويجترون أفكارهم الباليّة بتكرار مشين.
خلال تجربتي في زيارة سجن النساء ، قدّر لي أن ألتقي بمجموعة من نزيلاته ، لم تفصل بيني وبينهنّ القيود والقضبان ، مشين أمامي ، وجلسن خلفي لحضور الحفل ، مررتُ بجانبِ إحداهن حين ذهبتُ لشرب الماء ، ابتسمت لي ، مدت إليّ كفها مصافحةً ، رددتُ الابتسامة ومددتُ كفّي.
حينها تأكدت لي قناعتي التي طالما فكرتُ فيها وناقشتُ أبي حولها فدافعتُ عن السجين كثيرًا ، دفاعًا لا يبرر فعلته ولا يسوّع جريمته ، دفاعًا يقرّ بإنسانيته فحسب. نعم يستحق العقاب وهذا حقّ الله ثمّ حقّ العباد.
لكنّه إنسان ، متأكدة أنه بذل ما في وسعه لئلاّ يصل إلى هنا ، حاول كثيرًا أن لا يتشوّه وألا يُدان.
لكن ضعفه أمام المال أو الانتقام أو أيًا ما كان ، هو ما ساقه إلى هنا ، لقد كان إنسانًا ضعيفًا طوّقته ظروف أهله أو أصحابه أو مجتمعه وإرادته كانت أضعف من أن تواجه وتقاوم.
وبالعقاب قد يتعلّم كيف يصبح أقوى ، وبإرادة أكثر مقاومة ، وممانعة ، هو إنسان معلول في نفسه والبعض في عقله وتفكيره، فالإنسان السليم المعافى لا يقدم على أيّ من ذلك ،وبنظري أنّ المعلول يستحق المساعدة ليشفى ويعود أفضل مما كان عليه.

أخيرًا لم يشبه السجن الذي زرته أيًا من تلك الصور لم يشبه سجن تلك العتمة الباهرة ولا سجن يا صاحبي السجن ، لكنه كان حقيقيًا و واقعيًا مثلهم ، وجدتُ فيه الإنسان المفجوع بنفسهِ أحيانًا والموجوع منها في أحايين أخرى ، وجدتُه هو الذي يمعن أخوه الإنسان في نكئ جرحه مرارًا وتكرارًا ، إن لم يكن داخل السجن ، فخارجه ، أينا يقدر أن يمنح السجين بعد خروجه من السجن فرصة ميلادٍ ثانية لولوجه إلى الحياة من جديد دون أن يقصيه عنها ؟ أينا يستطيع أن يمنحه فرصة أن يكون مرة أخرى ، جاره أو أخوه أو أبوه أو عمه أو خاله أو أمه أو ...   ؟ فرصة نقية خالصة لا تشوبها حتّى شائبة نظرات الريبة والإزدراء. في ماذا تفوقنا عليهم نحن الممتلؤون بالأخطاء الظاهر منها و الباطن ؟
في ماذا تفوّقنا عليهم إن كان البعض منهم أخطأ في حق العباد مرة ويخطئ البعض منّا في حقّ ربّ العباد مئات المرات ؟ بقدر صدق المرآة التي تعكس لنا عيوبنا وأخطاءنا دون تهوينٍ أو تأويل ، نكون أقدر على العفو والصفح والغفران ، هذا ما أعتقده.

أختم بلسان السجين المرحوم رفيق عزيز في تلك العتمة الباهرة الذي قال قبل وفاته في إحدى لحظات عبوديته الخالصة لله " أنا موجود لأصلّي لا لأُدين البشر "

الجمعة، 14 يوليو 2017

قراءة الإنسان






أبدأ بشكري للأستاذ عويّد السبيعي الذي استعنتُ مرة بمقطع له على " اليوتيوب " يتحدّث فيه عن تجربته مع  القراءة وكيف غيرت أفكاره وختمه بعبارة " القراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة " فعرضتُه على فتيات في المرحلة المتوسطة إثر برنامج آكام2 الذي قدمناه أنا وصديقاتي بهدف
"التوعية بمسارات بناء الحياة المتوازنة في مختلف المجالات بطرق عملية لاستغلال الطاقات وتوجيهها".
أشكره لأنّه جعل عبارة كالقراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة ،تعلق في ذهن فتاة في هذا السنّ لتسجلها بحماسة ضمن ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي في آكام تحت بند " أهمّ المعارف التي اكتسبتها "
وعدتُ بذاكرتي إلى ما قبل الست إلى السبع سنواتٍ ، حين كنتُ بعمرهنّ ولم أكن أعرف عن القراءة سوى أنّها سمة المثقفين وكثيري الاطلاع هذا المعنى الجافّ، اليبس ،  الذي يحمل في طيّاته بعض الاستعلاء أو هكذا أشعر ، حتى أنني بسببه  اعتقدتُ حينها أنّ آخر ما يمكن أن أجيد فعله في حياتي هو القراءة ، فما حيلتي وأنا أنظر إلى كتاب من 150 صفحة وأفكّر من أين سأجد نفسًا طويلاً يساعدني على قراءة هذه الصفحات كلها ؟ ثمّ من أين لي بعقل مستنيرٍ يستوعبها كلها ؟ ثمّ من أين لي بوقتٍ يجعل من هذه العملية الثقيلة عادة ممتعة ومتنامية ؟ أعتقد أن تلك كانت أحد مخاوفي التي منعتني من ممارسة القراءة في سن مبكرة ، فلا توهنوا همم الأطفال الخصبة ، الطريّة بمثل هذه المعاني التي لن تثمر فيهم ولن تؤتي أكلها ، لا ترهقوهم بتلك العبارات الرنانة ذات القامات الشاهقة التي لن يفلحوا في الوصول إليها ، بل إنها تفوق حتّى أكثر أحلامهم عذوبة وعلوًا.
وبرغم أني بدأتُ القراءة بمعناها اليبس متأخرًا في بدايات المرحلة الثانوية طلبًا للثقافة وسعة الاطلاع، إلاّ أنّ القراءة انتصرت عليّ مؤخرًا حينما بثت نفسها فيّ بمعناها الحيّ ، عندما جعلتني أطرق أبواب المحاولات دأبًا ، فتارة أحاول قراءة نفسي وتارة أحاول قراءة الآخرين،  في الحقيقة كثيرًا ما حاولتُ قراءة الإنسان بتواطؤ ضمني بين تخصصي وفعل القراءة هذه العلاقة ذات الخيوط الوثيقة الرفيعة التي اكتشفتها أخيرًا، حيث صرتُ أبحث عن الإنسان خلف الوجوه والتجارب أبحث عن أسراره وأسبابه وحكاياه أبحث عنه عميقًا وبعيدًا ، أبعد من رمق نظره وأعمق من ملامح وجهه .
 لا أنكر أني تطلعتُ لمشابهة المرآة التي وصفها الأستاذ حجي جابر في روايته الأخيرة لُعبةُ المغزِل حين قال "لا أحد ينظر في المرآة لذاتها فالكل يبحث عن ذاته فيها ، عن صورته الصادقة.
لكن هل هذا أقصى ما تستطيعه المرآة ؟
ماذا لو كان بمقدورها أن تعرّي دواخلنا كما تفعل مع ملامحنا الظاهرة ؟ أن تكشف ما نخبئه تحت جلودنا ؟ ما نخبئه عن أنفسنا قبل الآخرين ؟ هل سيستمر تصالحنا المريح معها ؟"
وينتهي هنا ، لكن هناك تتمة لهذا المقطع طرقت رأسي كثيرًا فسجلتها على الهامش :
ماذا لو امتلكت المرآة القدرة على تقبلنا كما نحن والتماس الأعذار لنا دائمًا حتى بعد أن نفتضح أمامها ؟ ماذا لو كان بمقدورها أن لا تقع في فخاخ توقعاتها عنّا لتقولبنا وتنمذجنا كيفما شاءت وألا تحاسبنا على هذه التوقعات أو خيباتها فينا على إثرها ؟ هل سنمتلك خيارًا آخر غير التصالح معها عندئذ ؟
لا أعتقد.
فعلاً أغرتني هذه المرآة لمشابهتها ، ما أغراني أكثر أنها تمتلك كثيرًا من مقوّمات الأخصائي الاجتماعي
الذي يمثل مهنة الخدمة الاجتماعية وهذا هو التواطؤ الذي قصدته بين تخصصي وفعل القراءة ، هل هذا يعني أني إن كنت هذه المرآة التي تجيد فعل قراءة الإنسان على هذه الشاكلة فسأكون أخصائية اجتماعية جيّدة ولو إلى حدٍ ما ؟ نعم أعتقد.
فالبحث في الأسباب والحفاظ على الأسرار وتقبل الإنسان جملة وتفصيلاً هي مبادئ أساسية في تخصصي.
ثمّ ونحن نمارس فعل القراءة يتوهم من يظن أننا نتعامل مع نصوصٍ مجرّدة إننا أيضًا نتعامل مع الإنسان وأسراره وأسبابه وحكاياه لكنها مدسوسة ، تختبئ خلف بساط الكلمات وجذوع الجمل و العبارات ، وأيّما فاعلية تلك لمن يتقن لعبة الغميضة حين يقرأ ، ليكشف عنها.
يقول الأستاذ حجي جابر في روايته لُعبة المغزل مرة ثانية على لسان الجدة الحكواتية قائلة لحفيدتها"
" الحكايات لا تأتي من الخارج ، حتى لو كانت تخصّ آخرين وإننا حين نشعر بنضوبها ، يكون داخلنا هو الذي توقف عن رؤية الأشياء بطريقة مختلفة "
أعتقد أنّه اعترافُ ضمني من الكاتب بأنّ كل كتاب هو جزء من تجربة ما أو رؤية ما لكاتبه ، وبهذا الاعتراف أجد أنني مدفوعة لممارسة فعل القراءة بشغف وانتباهٍ أكبر ، بحثًا عن الإنسان وأسراره وحكاياه
هل أصبح التواطؤ بين القراءة وتخصصي صريحًا الآن ؟!
أخيرًا أهنئ الجميلة التي علقت في ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي بعبارة "أشعر بعد هذا اللقاء أني بحاجة إلى زيادة وقت القراءة"  لأنها سبقتني في سنها باكتشاف سر القراءة كحاجة وضرورة.
أهنؤها ثانية لأني بما التمستُ منها من علاقة واعية بينها وبين القراءة أستطيع التنبؤ بأنها ستكتشف مبكرًا عندما تكبر قليلاً بأننا تجاوزنا مرحلة الحديث عن أهمية القراءة
وأنّ عليها حينئذ أن تجد الطريق الذي تجيب من خلاله عن سؤاليّ ماذا ستقرأ ؟ وكيف تقرأ ؟
لأنّ العمق الكامن خلف هذين السؤالين هو الذي يمنح فعل القراءة حيويته وفاعليّته.

وأنا اخترت قراءة الإنسان حيثما أجده.