أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

السبت، 5 أغسطس 2017

أثقلُ من رضوى !


أنهيت رابع تجربة قرائية لي في رمضان بكتاب " أثقلُ من رضوى " سيرة ذاتية للروائية المصرية والأكاديمية رضوى عاشور – رحمها الله – زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي ، أعتقد عندما قلتُ مريد اتضحت العلاقة بين هذين الانتقائيين هذه القراءة والقراءة السابقة لي لرأيتُ رام الله ، نعم كانت أحد دوافعي لانتقاء الكتابين هو التعرّف على هذه العائلة المثقفة التي لكل فرد فيها باعٌ في الكتابة والأدب الأم والأب وابنهما بعد رؤيتي لمقطع على اليوتيوب يجمعهم جميعًا ، أخذتني خيالاتي حينها لرسم صورة جذّابة حول ثراء الحياة التي تعيشها عائلة كهذه ، ما أشهى لقاءاتهم وأمتع أحاديثهم وأوسع آفاقهم ، ما كمّ المتعة التي يستيقظون على إثرها كل صباح لبدء يوم لا يخلو من بصيرة حصيفة تتعاملُ مع الحياة بعمقٍ لا يتأتّى للمنشغلين بها عنها. كيف يخططون للعناية بمكتبتهم ورعايتها وهي تكبر وتنمو ، كيف يتناقشون حول نتاجهم الأدبي بطريقة نقدية يكمل فيها كل رأي ، الرأي الآخر ، كيف و كيف وكيف ؟
وبعد أن مررتُ بهاتين التجربتين ، بدت لي سذاجة الأوهام والخيالات التي نسجتها ، لأنّ ترفًا كالذي تخيلته لم يكن ليتمخض أبدًا عما قرأته في عاطفة مريد والتمسته في عقل رضوى وحياتها ، ترفٌ كهذا لن تنجب ابنًا كتميم قطعًا.
سيرة رضوى التي قرأتها في مؤلفها " أثقلُ من رضوى " عصفت بارتيابي حول السير الذاتية وكتّابها.
كثيرًا ما تسآلت ، أي نرجسية تلك التي يمتلكها شخصُ يرى أنّ حياته أهلٌ لصياغتها بين دفتيّ كتاب شخص يؤمن بأحقية أن يكون عمره ، عمرًا مضافًا إلى أصحاب المكتبات وعشّاق القراءة ؟ ما الاختلاف الذي عاشه وأعطاه كل هذه الثقة ؟ ماذا يريد أن يقدّم ويقول لي كقارئة ؟
رضوى أجابت عن أسئلتي ببراعة تامة وبددت كلّ هواجسي حتى أنّي أفكر ما السيرة التالية التي يمكن لي قراءتها .
كاتبُ السيرة شخصٌ أكثر تواضعًا من مزاعمي السابقة ، شخصٌ ارتأى أن سلاحه الوحيد لمواجهة مخاوفه وتحديد مواقفه و التعبير عن خوالجه وفهم تجاربه هو الكتابة ، لأنه لا يتقن حرفة غيرها تقدّم له كل هذه المزايا ، مزايا تجعل الحياة أخفّ وطأة ، وأكثر بساطة و وضوحًا وأشدّ عمقًا.
حدثتني رضوى عن مصر كما لم أعرفها من قبل ، عن مدنها وشوارعها ومبانيها وجامعاتها ، رأيتُ بوضوح تلك الجامعات التي تخرّج منها دكاترتي في الجامعة ، لأنّ مصر هي الدول العربية الأولى التي درست الخدمة الاجتماعية في معاهدها وكلياتها ، فاستعانت جامعتي ببعض أبنائها وبناتها.
حدثتني رضوى عن شباب مصر  الذين ينامون في الشوارع في ميدان التحرير تحديدًا ، الذين ارتوت أراضي مصر بدمائهم وهم يقومون بمظاهرة ما ، أو ثورة ما ، أو احتجاج ما ، الذين يحبون مصر حدّ أن يفدوها بأرواحهم لتهنأ الأجيال القادمة مما حرموا هم منه ، كانوا يثورون ثأرًا لأنفسهم وتاريخهم ومستقبلهم وأرضهم ، لحياة كاملة يؤمنون تمامًا أن كل مصري يستحقها حتى وإن لم يحظوا هم بها.
تحدثت عن شخصيات شابة كثيرة ، عرفتها وأحببتها وأكبرتُ فيها كل تلك الجرأة والغيرة والخلق والعلم.
تحدثت عنها هي الأكاديمية في جامعة عين شمس في القاهرة في قسم آداب اللغة الإنجليزية ، التي شغلت بعلمها وفضائلها العديد من المناصب ، ثمّ حرمت بعضها بسبب تمسكها بمادئها وقيمها في وسط المحسوبية وتقديم المصالح الشخصية على حق الله وعباده و الواجب ، تحدثت عن نفسها وهي تواجه مرضًا نادرًا لا يصاب به إلا شخص واحد بين كل عشرة آلاف ، وتتغلب مرات عديدة عليه بفضل الله ثم دعم الأحبة حولها ، وقفت كثيرًا عند عبارة قالتها : " من يجرؤ على الرحيل في وجود كلّ هؤلاء الأصدقاء ؟ لا أحدّق طويلاً في الأمر ، أغضّ الطرف ، لا أملك تسليم القياد إلى عاطفة تفتح الباب لهشاشة أجاهد في نفيها " أرى بسالتك وهشاشتك في وقتٍ واحد يا رضوى.
الآن أتحدّث أنا عن رضوى ،وأسأل أين كانت تلك المرأة في خضمّ هذه الحياة وجلبتها ، زوج فلسطيني تجبره ظروفه للغياب عنها ما يقارب ال17 عامًا فوجدت نفسها تتصدى لمهمة تربية ابنهما البالغ من العمر 5 شهور فقط في وطنٍ جرحه ينكأ باستمرار بأيدي أبنائه ، ومع مرضٍ كان قدرها أن تكون هي الشخص المصاب به من بين 10 آلاف شخص وفي وظيفة تجاهد لأن تكون أهلا لها بقيمها ومبادئها ، ثمّ وفاة أخيها الأكبر تتبعه أمها بعد عدة أسابيع ، بماذا كنتِ تشعرين مع كل هذا يا رضوى ؟
أفهم دموعكِ المنسابة التي كابدتِ مرارًا لحبسها ولكنها رغمًا عنكِ تنهمر في حضرة زوجك وابنك دون أن تعرفي سببها فيحاولان مدفوعان بخوفهما عليك تهدأتكِ وتجاوز الأمر. كان لكِ أن تبكي.

كان لابدّ لرضوى أن تكتب سيرتها سأعبر لها عن شكري بالدعاء لها ، فقد أكسبتني بعدًا وعمقًا جديدًا لفهم الإنسان ومعرفة مصر ، ، والأهم أيقنت أنه لو كان احتمال تشابه الحيوات بين كل الناس واردًا لكانت أيضًا هناك فسحة للاختلاف في طرح السيرة ، فسحة تتحدد بعمق البصيرة والنضج الإنساني في فهم التجربة ، ومشاعرٍ كل شخص في كل موقف أو حادثة.
أخيرًا  سألتُ  نفسي ما الذي آلمني أكثر ؟ هل انتهاك الإنسانية في وطنٍ على يد أعدائه أو انتهاكها في وطنٍ على يد أبنائه ؟ ما الموجع أكثر الجرح الذي يخلفه العدو ؟ أو ابن الوطن ؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق