أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

عام 2025م في مقصورة المسافرين





 

بسم الله ربِّ البداياتِ المباركاتِ..

عودة إلى المدوّنة والتدوين ونستفتح بعام 2025م في مقصورة المسافرين.

 

في صالات المطار


يُخيّلُ إليَّ أحيانًا أنه بوسعنا معرفةُ نوع السفر الذي يقصده الآخرون عن طريق مراقبة خطواتهم، وطرائق مشيهم، فالخطوات الزاحفة والمشيُ المتثاقل حالُ المسافرين الذين يُنازعون أنفسهم تجاه وجهاتهم ويُصارعون فيها فكرة السفر من أساسها، غير أنّ الدافع قوي والغاية مُلحّة، فربما كانوا يسافرون لغرض العلاج أو العمل أو أغراضٍ أخرى متصلة بأسباب عيشهم وضرورات الحياة.

أمّا الخطوات المُسرعة أو المُهرولة، التي يتقافزُ فيها الكبار والصغار -كلٌّ على طريقته- فهي لمسافرين سُيّاح يفرون من حرارة الصّيف إلى وجهات باردة أو أقلَّ حرارة في مثل هذه الفترة من السنة، يُمكن أن تكون خطوات طلبة مقبلين على تجارب دراسية جديدة يُعلّقون عليها آمالهم وطموحاتهم أو عودة إلى أوطانٍ طال الغياب عنها وعن الأحبة فيها، أو ربما كانت خطوات قلوبٍ توّاقة وأرواحٍ مشتاقة إلى زيارة البيت الحرام. كلها خطواتٌ لها وقع الفرح والمرح.

خلالَ السنوات الأخيرة تقلّبت أحوالي بين المجموعتين، غير أنّي في هذا العام تحديدًا عبر فترة قصيرة تسنّى لي المرور بصالات المطار حوالي خمس مرّات، كنتُ فيها خفيفة الخُطى، كثيرة التقافز وتمرنتُ أكثر على مفارقة الأمكنة، أنا التي كنتُ أحمل وجع الفراق بين أمتعتي كرفيق لصيقٍ مُرهق، تخففتُ منه الآن، وصار الحماس يشدّني إلى الأمكنة الجديدة.

بدأتُ هذا العام بالاستفادة من فرصة إتمام دورة تدريبية أتيحت لي في (كوالالمبور-ماليزيا) وقد أتممتها خلال ثلاثة أشهر ولله الحمد.

 


 


في كوالالمبور


كان لقائي الأول بهذه المدينة، ولقائي الأول عامة بالدُّول الآسيوية – شديدة الحارة- في ساعات النهار، وإذ أشير إلى ساعات النهار، لأني قضيتُ معظم رحلتي وأنا أتجوّل خلالها وأرتاد شوارع المدينة بل والمناطق الأخرى في كوالالمبور، حيثُ تكشف المدينة عن وجهها سافرًا وفاتنًا، مما مكنني من التعرّف على شوارعها وأزقتها وطبيعتها وأناسها، بوضوحٍ وهدوء تامّين.

تمتزجُ الأعراق الآسيوية في وجوه سكّان ماليزيا، لا سيما المالايو-وهم السكّان الأصليون- والصينين والهنود الذين حملتهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنزوح إلى ماليزيا، وهذا المزيج بطبيعة الحال أسفر عن تنوّعٍ في الأطعمة والوجهات السياحية، وطبيعة الأنشطة المتاحة وفي أماكن العبادة وطبيعة الخدمات، حتى عدد الإجازات ونوعها، فبالرغم من أنّ ماليزيا دولة إسلامية -حسب دستورها- إلاّ أنّ الإجازات الرسمية تشمل إجازات الطوائف الأخرى، مثل إجازة رأس السنة الصينية، وإجازات الاحتفالات الدينية للهنود.

رائعة كوالالمبور نهارًا، تُظهِر – مزهوة – مفاتنها بدءًا من طبيعتها التي تتمايز ألوانها وتتضح في لوحة بديعة تأملتها في الحدائق والجبال بين الشلالات وأمام البُحيرات والأنهار، مرورًا بسكّانها الهادئين رغم كثرتهم، البسطاء رغم مظاهر التكّلف التي تُحيط بمدينة مركزية وتجارية، الذّواقين للأطعمة رغم نحُول أجسادهم.

ثمّ لا يفوتني الحديث عن عمارة المساجد فيها، حيث تسنت لي زيارة ثلاثة مساجد أبهرتني عمارتها في دقة التفاصيل وجمالية المكان ولكلٍ منها ميزات لا يسعني المقام لذكرها لكني سأرفق صورًا لها (المسجد الوطني، مسجد بوترا، مسجد توانكو ميزان زين العابدين)، ولن أتجاوز شعوري بالفخر الشديد حين علمت أن مسجد بوترا أو المسجد الأحمر – كما يُعرف- هو من بناء شركة بن لادن السعودية.












في الليل تبهتُ هوية المدينة، حين يزدحم السُيّاح في كل مكان لا سيما عند النافورة الراقصة في مركزها (KLCC) حيث يفدُ الناس إليها للاستمتاع بعروضها من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، . يُغريهم وجهها اللامع وإضاءات الأبراج الشاهقة حولهم. فعلًا منظر جميل.

لكن لو خُيّرتُ لاخترت المدينة نهارًا ليس لأني كنتُ حينها قادرة على إبصار جمالياتها إلى هذا الحد فقط، ولكنّها أكرمتني نهارًا وأعادت إليّ صبا الطفلة التي كانت تملك دراجة تلعب بها في الحارة حول المنزل في مساحة محدودة -لأسباب أمنية بطبيعة الحال- ساعات طويلة من ركوب الدراجة حظيتُ بها في كوالالمبور انتصارًا لتلك الطفلة ومباهاة بما تستطيعه الفتاة التي كبرت.



يختزلنا السفر في "السؤال عن الوطن"

Where are you from?"

طوال الأشهر الثلاثة كان التعريف عن نفسي يبدأ بـ: السعودية، متجاوزة ذكر اسمي، الذي استخدمته لمرات قليلة.

في السفر يعرفنا الآخرون أو -يسهل عليهم التعرّف علينا- حين يقفزون مباشرة للسؤال عن الجنسية أو الوطن، حيث يختصر هذا السؤال الكثير من التفاصيل، لأن الإجابة ستجرُّ وراءها حمولة ثقافية واجتماعية كاملة، يُمكن أن توضح مستوانا الاقتصادي وحدودنا في التعامل مع الآخرين، حتى درجة الاحترام التي نُقابَل بها، وأحيانًا مستوى كرم الضيافة الذي نستحقه، وهُنا مثلًا أذكر حين دخلت مطعمًا عربيًا في سنغافورة، فسألني الموظف "كالعادة"

"Where are you from?"

فأجبت: From Saudi Arabia

وبعدها اكتملت أهليتي للحصول على ضيافة مجانية "كوب شاي وحلوى عربية".


عن البحر




إذا تجاوزتُ الحديث عن درجات الحرارة المرتفعة فيها -وهي لا تختلف عن الحرارة لدينا كثيرًا- لكن حالة السفر تُضفي على المشيِ شرعية – غير مفهومة بنظري- في ظلّ جميع الظروف وبتقبل مختلف الأحوال والمواسم وقد كان جزءًا صعبًا من الرحلة بالنسبة لي، ثمّ إذا تجاوزتُ الحديث عن المطر المتكرر الذي يجعل من نسيان المظلة "كارثة لحظية" فبطبيعة الحال هناك يُمكن أن أقصد المتجر القريب من منزلي مسافة خمس دقائق في جو صحو وصافٍ، فأنتهي من تبضعي لأخرج من المتجر على حالة مطر كثيف يصعب المشي تحته دون مظلة.

الآن لي أن أتحدث عن البحر قليلًا ..

أعرفُ البحر البسيط جيّدًا، أزعم أنه يعرفني حين يمنحني شعورًا آلفهُ منه وأحبه، وإني إذ أقول البسيط، لا أقصده في الوزن والشّعر، وإنما في سعة الأفق.

يَأتِي مُمْتدًا، لا تَحدُّه سِوَى نظرتي العَاجِزة عن بُلوغِ آخره، هادئًا لا تلفتُ انتباهه سوى خطوات المارّين أو المتأملين. وهذا ما وجدته في إحدى شواطئ جزيرة بينانج.

في حضرة البحر أستحضر كلَّ مرة أبياتًا للشاعر عبداللطيف بن يوسف:

البحر ..

يسكنه الذين تعوّدوا عيشًا على أفقٍ تؤطّره السَّعة.

ثم تأخذني خيالاتي لأمنية آمل تحقيقها فعلًا، في فترة متقدمة من العمر _ إن أمدّني الله بالصحة والعافية- أن أسكن في منطقة قريبة من البحر أو مطلة عليه، فأنا ممن ينشدون السّعة ويتطلعون إليها.

في سنغافورة كانت زيارتي غير المخططة للبحر الباذخ أو المُترف – إن صحّ وصفي- عند تلك الشواطئ التي يكثر زوّارها ومرتادوها ممن ينشدون مظاهر التكلّف والاستعراض وبرغم جمال منظر البحر، إلا أني لم أستطع الجلوس فيه لأكثر من نصف ساعة، سارعتُ بعدها للمضيّ والعودة أدراجي.



الكاتب المصري عزت قمحاوي في كتابه (غرفة المسافرين) يوجز تأمّلاتي هذه في عبارة لطيفة، ويقول: السّفر تحديقة، نظرة إلى الجميل تكون خطرة أحيانًا.