حكايتي بعد التخرج ...
أقصها
عليكم لأني أدرك الميزة الكامنة في القصص والحكايات حين تخلق مساحة إنسانية مشتركة
من المشاعر والتجارب ، على مستوى الانتصارات كما هو في العثرات والإخفاقات ، وعلى
مستوى المسرات كما هو في المواجع والخسارات.
بين أًصابعي الكثير من الأحرف العالقة
لعامِ كامل وارتباكٍ متكامل.
تراوحت
أيامه بين السعة والضيق ، بين الجدب والعطاء ، لا أدري إن كانت أيام الشدة أكثر أم
تتجاوزها أيام الرخاء ، لكنه كان عامًا كاملاً ومرّ.
·
آخر اختبار لي في مرحلة
البكالوريوس يوم 23 / 8 / 1439هـ
·
استلمت وثيقتي يوم 20 / 9 / 1439 هـ
·
فاجأني الأهل والأصحاب بحفل تخرج أنيق
ومميز لا تزال ذكراه عالقة في ذهني
يوم 1 / 11 / 1439هـ
بعدها لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى تنازلت عن شرف
حمل اللقب الذي طالما انتظرته ( خريجة ) ، لأبدأ متعجلة في البحث عن ( وظيفة ).
- - لا يمكن أن أمضي عامًا كاملا بالمكوث في المنزل دون عمل أقضّي فيه ساعات فراغي الطويلة وأتكسّب من خلاله ما يكفل لي استقلالي المالي الذي اعتدته مع المكافأة الجامعية.
- - من أين أبدأ ؟
- - ماذا أريد ؟ وظيفة موسمية ؟ وظيفة حكومية ؟ وظيفة في القطاع الخاص ؟
- - بين المجالات المتعددة المتاحة لخريجي تخصصي ، إلى أيّ المجالات سأنحاز بشكل دائم أو مؤقت ؟
مثل هذه الأسئلة والهواجس لم تكف عن طرق رأسي ، طرقًا
ملحًا ، شديدًا ، مسببًا للصداع مع مرور الوقت.
في البدء كان أكثر ما يربكني أنّ هذا العام ، عامٌ
مفتوح على مصراعيه ، لا حدود للفرص فيه ولا قواعد لضبط تجاربه ، ومن هنا تحديدًا
اتسعت رقعة التيه وتفاقمت أزمات الأرق.
عشرات الإعلانات الوظيفية التي تواصلت مع أًصحابها
( مقاهي ، مراكز تجارية ، محلات حلويات ، مستشفيات ، مدارس )
كانت هذه أول الخطط التي شرعت في تنفيذها ، وظيفة
مؤقتة في قطاع خاص ، أستطيع التنازل عنها مع وجود فرصة أفضل منها ، لا يهم أين
تكون ، وكم مردودها ، لكن الأهم : الخبرة ، عدم المكوث في المنزل ، راتب شهري.
كان الصمت والتجاوز ردًا من معظم تلك الوظائف ،
للعديد من الاعتبارات التي كان من بينها :
سيرتي الذاتية والتي لا ترقى لها وظائف مثل معدة قهوة
( باريستا ) في مقهى أو موظفة استقبال في مستشفى أو بائعة في إحدى المحلات.
جاءني هذا الرد فعلا في الكثير من
الوظائف، وغضبت.
اطلع المسؤول على
السيرة سريعًا ثم استوقفه سطر خبراتٍ يقول :
-
متدربة كأخصائية اجتماعية لمدة 3 أشهر
بمستشفى الملك فيصل بمكة.
ردده
متعجبًا ثم سأل : أًصالة ماذا تفعلين هنا أمامي وعلى هذا الكرسي ؟
أنت
أخصائية ونحن حلونجية ، فهل تدركين الفرق ؟
أصابني في
مقتل أو قصف جبهتي أيًا يكن ، لكنني ابتسمت ببلاهة لم ينتبه لها وأجبته إجابة
معلّبة ، جاهزة ، يبدو أنها لم تكن مقنعة كفاية ، لأنهم لم يعاودوا التواصل معي بعد
ذاك اليوم.
وهكذا من بين عشرات تلك الوظائف التي تقدمت لها خلال
هذا العام ، قمت بسبع مقابلات فشلت في أربعٍ منها ، واجتزتُ ثلاثة.
ولكما أن تتخيلا عزيزي القارئ / عزيزتي القارئة :
كم كان الانتظار طويلًا والإخفاق عصيبًا ، والمرارة
متفاقمة واليأس قريب.
هذا ما شعرتُ به بمرور 4 أِشهر بعد التخرج ، وعند
النظر لمعدلات البطالة التي نعاني منها ، يبدو رقمًا سخيفًا لا بدّ أن أخجل من
ذكره.
هكذا استخف الكثيرون بحالة
الإحباط التي أصابتني خلال تلك الفترة.
ثمّ كان ( مشروع رائدات : لتأهيل المربيات والقيادات التربوية )
لمدة فصل دراسي كامل ، يومان
من كل أسبوع ، دورات تدريبية تربوية وفكرية ، مخالطة أناس على قدر من العلم والفضل
والخلق – بارك الله لهم وفيهم وعليهم – كان لي من المشروع خير الزاد وتقويم العدة
والعتاد.
وأثناء انتظاري في هذه المحطة ، في يومٍ أِشرقت شمسهُ من مطلع آمالي ، ومن
حيث لم أحتسب ولم أتوقع ، تواصلت معي مديرة إحدى المؤسسات الاجتماعية التي سبق وأن
تطوعت فيها خلال المرحلة الثانوية ، لتقدم لي عرضًا وظيفيًا لم يطرأ لي على بالٍ
حينها ، كان عرضًا مفصلا على مقاس سيرتي الذاتية ، عرضًا يشبهني وأشبهه ، يعرفني
وأعرفه. كم كانت دهشتي كبيرة وسعادتي أكبر.
نعم ، ما أصابني لم يكن ليخطئني وما
أخطأني لم يكن ليصيبني .
كان هذا درسًا أولا لتلك الفترة.
دون الخوض
في التفاصيل كانت تجربة علمتني ما يجب أن أتعلمه، وكان عمرها شهرين فقط.
خلالها كنت
أقدر على تلمّس الطريق ، ومواجهة المخاوف المتبقية ، وتحديد الغايات الجديدة ،
أردتُ دائمًا ألا ينتهي هذا العام إلا وقد وجدت لنفسي سياقًا جديدًا وملائمًا تنتظم
من خلاله أهدافي ومناشطي ومساعيي. واجتهدت لذلك.
قرارٌ
اتخذته وخطة انتهجتها :
متجاوزة كل الفرص الثابتة والحكومية التي أتيحت تلك
الفترة لتخصصي في عدة مجالات كالمستشفيات والمدارس والمؤسسات الاجتماعية – كل فرصة
تجاوزتها كانت بمثابة وخزة ضمير تحذرني من ندمٍ لاحق – لكنه كان قرارًا حازمًا :
أريد الالتحاق بالمجال الأكاديمي تعلّما وتعليمًا ( الماجستير والمعيدية ).
قدّمت على كل
فرصة ملائمة لهذا القرار أتيحت و وجدتها.
إخفاقاتي هنا
كانت أشد وطأة وأكثر إيلامًا.
لم أجتز اختبار
القبول للمعيدية في جامعتين.
حاصرتٌ نفسي بأسئلة سوداء مفخخة ، من قبيل :إن أخفقتِ
في أكثر ما تحبين وتدعين إجادتك له ( تخصصك ) ، فبماذا ستنجحين ؟!
هكذا يعادي الإنسان نفسه حين يخفق أحيًانًا ، فيتحول
يقينه إلى شك ، وتصديقه إلى كفر ، يتجرّد من قوته وجَلَدِه ويستسلم لضعفه ويأسه.
لا بأس هذا جائز
؛ لأن الإنسان خلق هلوعًا ، جزوعًا ...
حتى يرى الله في قلب محنته ، ويدرك من جديد أن ما
أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن العوض الجميل آتٍ لا محالة ..
هكذا تجاوزت
بفضل الله محنة جديدة ، ثمّ بفضل نداء وخولة ، صديقتاي اللتان كانتا معي طوال
الطريق على قدر المشقة والتعثر ، وعلى قمة كل نجاح واحتفاء.
صيّرهما الله لي نورًا ولطفًا وريًا لا يشح أو يتوقف.
مر شهر على تركي للوظيفة الأولى والتحاقي بالوظيفة
الثانية خلال هذا العام ، هي أيضًا لم أتوقعها ، لكنني سعيت لأجلها ( معلمة ورائدة
نشاط ) في إحدى المدارس الأهلية.
أختصرها بكونها تجربة : ممتلئة ، ماتعة ، شاقة ، ممتعة ، مثرية ، صعبة ،
حساسة وجميلة !
كل مفردة لي معها قصة لا يتسع المكان هنا لذكرها ،
وحسبي من هذه التجربة أني أحببت دوري كمعلمة تخالط الطالبات وتتعلم منهن بقدر ما
تعلمهن أكثر من كوني إدارية تتعامل مع الأوراق والأجهزة.
أيضًا كان عمر هذه التجربة شهرين انتهيا بنهاية السنة
الدراسية المنصرمة.
خلال هذين الشهرين كنت أعمل على قراري الجديد وخطتي الجديدة وأواصل سعيي
للحصول على المعيدية أو الماجستير !
تقدّمت هذه المرة على الماجستير ، وصلني بعد فترة ، ترشيحي
لأداء اختبار القبول ، لا أنكر أن خوفي من الإخفاق فاق حماسي هذه المرة للدرجة التي
راودتني فيها أفكار إضاعة الفرصة وتجاوزها، فتخليك عن شيء لا يشبه أبدًا تخليه عنك
، في الأولى تنتصر لكبريائك وفي الثانية تخسره.
هنا أيضًا بعد توفيق الله كان لخولة ونداء فضلُ كبير
، في مواجهة هذا الخوف وخوض التحدي ، سافرتُ الرياض لأداء اختبار القبول يوم الثلاثاء 19 / 7 / 1440 هـ
بعده الانتظار !
لم
يكف أبدًا عن كونه طويلًا وشاقًا وذا دمٍ ثقيل.
لا سيما الانتظار المطعّم بأفكار سوداء وهواجس مؤرقة
، والحمد لله أني حينها كنتُ أعمل في المدرسة ، وقد كان لدي من العمل والمسؤوليات
ما أزاحم به تلك الهواجس وأتجاهل فيه قدرًا ولو يسيرًا من هذا الانتظار.
في صباح يوم الثلاثاء 26 / 7 / 1440 هـ أثناء جلوسي
على مكتبي واستعدادي للذهاب إلى إحدى الحصص الدراسية ، وصلتني رسالة نصية مفادها (
تم ترشيحك للمقابلة الشخصية ماجستير خدمة اجتماعية وستكون يوم الخميس 28 / 7 / 1440
هـ ....)
دون أيّ اعتبار لأصالة الأستاذة والإدارية ، وبممارسة
حقي الكامل والمشروع في إبداء سعادتي كطفلة تحت سن النضج ، لا أعرف عدد القفزات
التي قفزتها وأنا أصرخ بصوت عالٍ شاكرة لله ومعلنة عن هذا الترشيح.
والحمد لله أن ضياع البريستيج هذا لم يشهده سوى اثنتين
من زميلاتي – شاركتاني إياه بتلقفُ هذا
الكم من البهجة بين أحضانهما وبصدق دعواتهما.
أسترجع الموقف الآن ولا أستطيع مغالبة الابتسامة
الطارئة على وجهي ولا السعادة المنبثقة في قلبي ، هذه إحدى فضائل الكتابة.
اليوم الثلاثاء والمقابلة الخميس ، بعد انتهاء موجة الفرح
العارمة تلك ، عدت للواقع بالبدء باتخاذ الاجراءات اللازمة ( أخبرت والدي - صديقي
الأول في كل شيء - حجزت تذكرة السفر ،
طلبت إجازة من العمل ، وحين عدت إلى المنزل بدأت الاستعداد والإعداد )
يوم الخميس بعد انتهاء المقابلة وخروجي منها ، هاتفت
والدي لإعلامه بمجرياتها ، تأمل لي حينها القبول وبشرني به بإذن الله.
ومع ذلك مرّ انتظار آخرٌ أطول وأصعب وأكثر
قبضًا على الأنفاس.
يوم 2 / 9 /
1440هـ كلله الله بالبشائر ، إنه العوض
الجميل والجبر العظيم الذي جهلته وانتظرته.
وصلتني رسالة
بريدية ( جامعة الملك سعود – عمادة الدراسات العليا – تمّ قبول طلبكم في برنامج القبول
الإلكتروني للدراسات العليا – ماجستير الخدمة الاجتماعية )
استدعوا اللحن من الذاكرة وشاركوني الغناء :
" حلمنا نهار .. نهارنا عمل
نملك الخيار .. وخيارنا الأمل
وتهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق
تدعونا كي ننسى ألمًا عشناه
نستسلم لكن لا .. ما دمنا أحياء نرزق
ما دام الأمل طريقًا فسنحيا "
نعم كان هذا الضوء القابع في آخر نفقي ، الحمد لله .
هكذا كان لي من
هذا العام الشدة والرخاء ، السعة والضيق كما أسلفت.
بعض فترات الشدة ولحظات الضيق التي مررت بها ، كانت صعبة حقًا ، ولا أصعب
بالنسبة لي من أوقاتٍ لا أعرف فيها نفسي و لا أجرؤ على مواجهتها إما
خوفًا أو ضعفًا.
كان لي من الضعف أيام فقدت فيها شهيتي للطعام والنوم
ولمخالطة الناس ، ولم أستطع مغالبة نوبات البكاء الفجائية التي كانت تنتابني ،
فضلًا عن ردات فعلي الحادة والغير مبررة في بعض المواقف مع الأهل أو الأصدقاء.
أما الخوف فقد كان لي منه أوقات فراغٍ كبيرة ومتسعة ،
فقدت من نفسي فيها الكثير ، حين تركت هواياتي التي اعتدتها وأحببتها ، وبدت لي
شاشة الحاسوب المطلة على عوالم المعرفة والتعلم المختلفة ، كثقبٍ ضيّق في الباب لا
يسمح باختلاس النظر أو نفاذ النور.
إحدى الدروس كانت : أنّ أوقات الفراغ قد تجعل من الإنسان عدوًا لدودًا
لنفسه وأنّها بنفس القدر ، قادرة على مواجهته بقناعاته وكشف مكامن النقص لديه.
أنت الآن تعيد اكتشافك لنفسك في مساحاتِ أرحب وأوسع .
أخيرًا منذ البداية كان الأمر بالنسبة لي كالدوران في
عجلة أو ترس ، سعي لاهث للوصول إلى نهاية غير متحققة أو موجودة ، وحين اتسع نطاق
الرؤية قليلًا أدركت أني في مدينة كاملة ملآى بالتروس بمختلف الأحجام ، انتقالي من
ترس إلى آخر متوطٌ بوهم الوصول وتوسّع الإمكانات وميلاد الآمال الجديدة ، يضيق الترس بي فأنتقل إلى آخر أكبر وأسرع ، بسعي
لاهثٍ آخر لوصول موهومٍ جديد !
هل يبدو الأمر مُتعبًا ؟ ربما ! لكنه
ممتعٌ أيضًا.
هل يستحق ؟ قيمته في النوايا والدوافع الكامنة خلفه.