أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

التدوينة الأخيرة في أقرأ 2017



طالما كانت النهاياتُ إحدى مخاوفي ، أخاف آخرَ كل شيء ، اللقاء الأخير ، الكلمات الأخيرة ، الالتفاتة الأخيرة ، والعناق الأخير"

وها أنا أمسك بالصفحة الأخيرة من تجربتي في ملتقى أقرأ الإثرائي ،وأكتب التدوينة الأخيرة عنه وفيه،  الملتقى الحلم بذاته والبوابة إلى غيره من الأحلام .

الحُلم الذي اعترض طريقي فجأة دون تخطيط أو سعيٍ مسبق ، ولكنها هدايا الله وهباته ، تتفوق حتى على أقرب أمنياتنا وأكبر نطاقات خيالاتنا.

أُهدي هذه التدوينة إلى الحياة القصيرة التي عشتها هُنا إلى المرة الأولى من كلّ الأشياء ، إلى الأشخاص الذين لا يشبهون غيرهم والأوقاتِ التي مضت متعجلة قبل أن أمتلئ بكل شيء.

شكرًا لفريق العمل لكلّ فردٍ فيه ، لهم هم الذين كانوا يعتنون بأدقّ تفاصيل المكان حتى يبدو كل شيء بهيًا وزاهيًا ، يليق بأقرأ يليق يـ I read ، شكرًا على الروح الواحدة التي تفرّقت بينهم بنفس القدر من الحب والسماحة والتفاني في العطاء.

شكرًا لهم ثانية لأنّهم استطاعوا الحصول على " مصباح علاء الدين " كيف ومن أين لا أدري. لكنّه كان لديهم. أنا متأكدة

فقد كنّا في مواعيدٍ مختلفة مع الدهشة والمفاجآت ما تمنيناه يومًا وما لم نتمناه.

منذ فترة أفكّر في اقتناء حاسوب جديد واكتشفتُ وجود نفس الرغبة عند غيري من المشتركات ، فكانت دهشتنا الأولى هُنا أنه كان هدية استقبالنا فور دخولنا إلى غرفنا

تعبر إحدانا في حديث عابر - غير مقصودٍ تماماً - عن رغبتها في تواجد " مأكولات خفيفة " في الاستراحة ، لتفاجأ بوجودها في اليوم التالي حاضرة أمامها.

أركز في المحاضرة التي يقدمها أحد الأساتذة ثمّ التفتُ يساري فجأة لأجد أحد الشعراء الذين أهتمّ بما يقدمونه يدخلُ إلى القاعة فأًصاب بالدهشة

وفي نفس اليوم مساء يدخلُ أحد المثقفين الذين طالما تابعتُ أطروحاتهم عبر " اليوتيوب " إلى القاعة فأصاب بدهشة تحوّلهم إلى واقعٍ أمامي.

تصلنا فجأة رسالة نصية بضرورة تواجدنا في الاستراحة ، ننزل على عجلِ لنكتشف بأننا على موعد مع إحدى مدربات " اليوجا "ٍ

نسافر الأحساء في رحلة استكشافية تاريخية ثرية ، نذهب إلى جمعية الثقافة والفنون لنحضر عرضًا مسرحيًا ، يغيّر تصوراتنا عن الفن المسرحي بشكلٍ جذري

نتعرّف على مجالات عديدة من المعرفة ضمن  اهتماماتنا وخارجها الفنون والآداب باختلافها شعرًا ورواية وقصة قصيرة وموسيقى وسينما ومسرح وغيرها من الموضوعات كالفلسفة والعمارة والأسطورة والخرافة والفانتازيا والأكوان المتوازية والعوالم المتعددة ، فتتسع آفاق الحياة في أعيننا وندرك ضيق المساحات التي نقف فيها وعليها.

يُشرف علينا نخبة من الرائدات والروّاد المتميزين ، فضّلهم الله بتجارب حياتية وقرائية زاخرة ، ورؤى فكرية مختلفة وفريدة ، أمسكوا قناديل الطريق لنا طوال الرحلة ، وبهم ازاداد ثراء التجربة ، وتضاعف نمونا.

كانت هذه هي مرتي الأولى في التواجد في المنطقة الشرقية ، ومرتي الأولى في مقابلة العديد من المثقفين والمثقفات في لقاءات ثرية طالما تمنيتُ حضورها ، مرتي الأولى والفريدة في دخول مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي والوقوف على وسائط المعرفة التي سيبدأ نشاطها فيه، كانت مرتي الأولى في الذهاب إلى المكتبة برفقة صحبة تفهم طقوسي الغريبة في القراءة وفي اقتناء الكتب بل وتشاركني إيّاها ، صحبة لطيفة لم أحتج لوقتِ طويل حتى أِشعر بأني جزءٌ منهم ، أني وبشكلٍ ما أعرفهم منذ زمنٍ طويل وفي مواقف عديدة ، كنّا عائلة أٌقرأ 2017.

وفوق كل ذاك الثراء كان لكلٍ واحد منّا انتصاره الصغير الخاص ، منّا من تغلّب على خوفه في الصعود على خشبة المسرح ، ومنّا من استطاع التعبير عن أحد أفكاره بنصٍ كامل لأول مرة ، منّّا من استطاع أن يخلق علاقاتٍ جيّدة كثيرًا ما فشل في خلقها ، ومنّا من استطاع الخوض في حواراتٍ مختلفة والتعبير عن رأيه الخاص فيها فضلاً عن إحاطتنا بثقافات بعضنا البعض القادمة من مختلف مناطق المملكة.

اليوم هو يوم العرض النهائي لنصوصنا أمام لجنة التحكيم ، حاولتُ أن أبقى هادئة قدر ما أستطيع ، فإن كان ولا بدّ من حلول النهاية فلتكن كما أريد لها أن تكون ، رائعة وباعثة للرضا فيّ ، نزلت بالمصعد ، ومررتُ بالصالة ثم جلستُ في انتظار دوري بوجود أستاذة سارة وأستاذة عايدة وزميلتيّ أمينة وحفصة والأستاذ فايز ، خف توتري  بوجودهم وبكلمات أستاذ فايز الداعمة والواثقة ، حان دوري ، اتجهتُ إلى منصة المسرح ، ثبتّ اللاقط ، ألقيتُ السلام وبدأت ، ألقيتُ النصّ الذي انهمكتُ الأيام الماضية في إعداده ، النص الذي كنتُ أرغب كتابته منذ فترة طويلة ولم أجد فرصة مناسبة ، النص الذي يعبّر عن مروري بتجربتين إنسانيتين أثرتا فيّ كثيرًا وأردتُ التعبير عنهما ، وانطلقتُ فيه من عبارة سجلتها ذات مرة على هامش رواية " رام الله " لمريد البرغوثي فكتبت " ما الذي يعنيه أن يكون المكان مكانك وألاّ يكون كذلك ؟ "

فكانت هذه العبارة أمّ النصّ وابنته ، وبعد انتهائي منه واجهتُ أسئلة اللجنة ثمّ وأنا في طريقي للخروج كان انتصاري العظيم هو علامات الاحتفاء التي رأيتها مرتسمة في وجوه الرائدات والروّاد ، أكفهمّ الممتدة تقول : لقد أبليتِ بلاءً حسنًا.

شكرًا أستاذ طارق

شكرًا أستاذ فايز

شكرًا أستاذ فيصل

شكرًا أستاذ تميم

شكرًا أستاذ ياسر

شكرًا أستاذ نوري

شكرًا أستاذة مريم ، شكرًا أستاذة حنان ، شكرًا أستاذ عبد العزيز ، شكرًا أستاذة عايدة ، شكرًا أستاذة وضحى ، شكرًا أستاذة نوف ، شكرًا أستاذة لبنى ، شكرًا أستاذة شيماء ، شكرًا أستاذة منيرة ، شكرًا أستاذة أسماء ، شكرًا أستاذة ياسمين ، شكرًا أستاذة شروق ، شكرًا أستاذ عمر ، شكرًا حتى يبلغ شكري منتهاه بالدعاء بأنّ يجزيكم الله عني خير الجزاء.

شكرًا أستاذة سارة منذ اليوم الأولِ حينما كنتُ في مكة في غرفتي ثمّ فتحتُ هاتفي النقّال لأجد " مجموعة الواتساب I read المرحلة الجامعية " التي أنشأتها بحماسة حتى أستوعب أنّ الحلم غدا حقيقة واقعة ، منذ لم تسمحي بالحواجز بيننا أن تكون ، فلا أنتِ الرائدة ولا نحن القارئات الصغيرات وإنما أنتِ أختنا وكلنا معينٍ يستفيد من الآخر ، شكرًا على احتمالكِ المُحِب  لكلّ التّعب الذي أثقلتُ به عليكِ عند كتابة النص والتدريب عليه ، وعلى إنصاتك المهتم بهواجسي ومخاوفي ، شكرًا على الإيمانِ والثقة ، شكرًا لأنكِ كنتِ أجمل مما توقعنا والحمد لله عليكِ وأحبكِ 

وأخيرًا ها نحنُ نحزم أمتنعتنا الكثيرة بما جاد علينا به المكانُ هُنا ، أمتعتنا التي جئنا بها ، ومعارفنا التي اكتسبناها ، كتبنا التي اقتنيناها ، وانتصاراتنا الصغيرة التي حققناها

ونأخذَ كلّ الشيء إلا المكان ، إلاّ أشخاصه وأشياؤه ، نأخذ كل شيء إلاّ بعضنا ، هكذا نتبعثر ونعودُ من حيث أتينا وكأننا ما التقينا.

وها هي النهاياتُ تحلّ كأحد مخاوفي الأصيلة أتناول فطوري هنا لآخر مرة ، أغلق باب غرفتي لآخر مرة ، أمشي في الرواق حتى آخره لآخر مرة ، وأفعلُ الأشياء كلها لآخر مرة إلاّ الالتفاتة الأخيرة ، التي تُراكم الغصص في حنجرتي  والدموع في عينيّ أتجاهلها ، وأمضي ، أسرع في خطواتي ، وأهرب من كلّ ما يشدني إلى الوراء . وداعًا آلّ المكانِ سلامًا على أرواحكم وانتهى كل شيء



الجمعة، 25 أغسطس 2017

المكتبة في أقرأ 2017

" إلى من قطف الكلمة من شتى حدائق المعرفة ولم تكفيه ، رحلة في البستان لعلها ترضيه "
وصلني بريدي على جناح حمام الدهشة الزاجل ، حمام أقرأ ، حمامُ الحُلمِ الذي لا زلتُ ارتوي من كفيه ، وبكل البهجة أقلّب ناظريّ في تفاصيله الماثلةِ أمامي ، ما تخيّلته ذات يوم وما لم أتخيّله حتى اليوم.

جنّة القارئ في الأرضِ مكتبة ، لا يهمّ اسمها ولا مكانها ولا حجمها ولا عدد الكتبُ بها ، يكفيهِ أن يدخل إليها ، أن يُصاب بالدهشة أمام الأبجدية الواحدة التي يحفظها جيّدًا ، ولكنها ومع كلّ رفّ وفي كلّ كتاب تمنحهُ فضيلة إدراكِ أنه لم يعرف شيئًا ، لا يعرفُ شيئًا ، وسيعرفُ أشياءَ كثيرة.

دخلنا إلى جنة المتنبي ، مكتبة المتنبي ، إحدى المكتبات العظيمة في مدينة الدمام ، دخلنا إليها جمعًا ثمّ صرنا أشتاتًا وكلٌ في فلكه يسعى ويبحث ، كلّنا كان ذاك القارئ العاجز ، التائه ، العاجز أمام كلّ هذه المعارف والعلوم ، العاجز إذ يغرق بينها وهو يُدركُ جيّدًا أنّ هذا الغرق هو احتمال نجاتِه الوحيد ، التائه إذ يمتدّ بصره في كلّ الاتجاهات ولا يدري من أين يبدأ وإلى أين سينتهي.

كلٌ كان يُمارسُ طقوسه الخاصة دون أن يشعر أنه نتوءٌ شائهٌ في وجه العالم ، فالكلُّ حولك يعرف أنّك قارئ ، لا تحتاجُ لنظارتين تثبتان أهليّتك لممارسة طقوسك في اقتناء كتابٍ ما ، الكلُّ حولك يفهم سبب صرخة الاحتفاء المفاجئة التي تُطلقها لتعبّر عن عثورك عن كنزك الخاص ، ذاك الكتابُ الذي أمضيت وقتًا طويلاً في البحث عنه ، ثمّ هو وبكل زهوٌ يتجلّى بمكرماتهِ عليك إذ تجده ، الكلُّ حولك يقدّر تصرفك العاديّ جدًا إذ تُمسك كتابا وتقلّب صفحاتِه سريعًا بمحاذاةِ أنفك حتى تنتشي برائحته وهي تنتشر رويدًا ، رويدًا في صدرك ، والكلُّ حولكَ سيصرخٌ مغتبطًا بإنجازك العظيم لأنّ حصيلتك من الكتب تجاوزت ميزانيتك وقدرتك المالية ، لن يوبخك أحدٌ منهم بدعوى التبذير وإضاعة المال ولكنك حتمًا ستكون مستهدفًا ، ومحط أنظار الجميع أيُّها القارئ الثريُّ بما تملك ، الغنيُّ بكتبك.

وإذا كانت جنّة القارئ مكتبة ، فنعيمهُ فيها أنّ يكون الكلُّ حوله مشابهون له في عاديّته ، يقدّرونها ، يفهمونها ، وتكون كل صرخة دهشة يُصدرها أحدهم مقطوعة يكملها الآخر دون أن يمرّ صمتُ اللادهشة ، كنشازٍ يُفسدُ كل ذاك النعيم.

كان اقتنائي  لديوان الأهلة للشاعر محمد عبد الباري تحيّة دخولي إلى تلك الجنة وحينَ تجاوزت كتبي الميزانية المسموحة كان لزامًا عليّ الاستنغناء عن بعض الكتب ، ففعلتها وأنا أتوجّع وأسأل الله العوض فيما استغنيتُ عنه ، وكان آخر كتابٍ أبقيته بحوزتي هو العمل التطوعي بين الواقع والمأمول ، لتكون حصيلتي مزيجًا بين الأدب ( رواية وشعرًا ) والمعارف المتعلقة بتخصصي ( علم النفس والمعارف الاجتماعية ).

خرجنا من تلك الجنة متّجهاتِ إلى " مكتبة القهوة " أحد المقاهي لنتممّ صورة القارئ الذي يحمل بإحدى يديهِ كتابًا وبالأخرى كوبًا من القهوة والمتعة.
تجربة تواجدي في أقرأ هي إحدى تجاربِ العُمرِ الذي يمنحنا نُضجًا لا يتأتّى بغيرها ، في أقرأ عرفتُ أنّ القارئ شخصٌ عاديٌ جدًا ميزتُه الفريدة أن يعرفُ أنه لا يعرف وقدرته الخارقة الوحيدة أنه لا يحتاجُ كتابًا ليقرأ ، ولكنّه يُجيدُ الولوج إلى العمق الكامن خلف الأشياء وفي قلب العالم ، يُتقن حرفة صناعة التأويلات المتعددة لكل ما يقرؤه ، وتستثيرهُ كلّ علامات الاستفهام للبحث عن إجاباتها المحتملة.


الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

فعلُ الكتابة في أقرأ 2017


" أعتقد أنّ الكتابة ليست فعلاً سهل التطويع ، إلى حدّ أن يكون زادك الوحيد فيه هو موضوع نهبك إياه لتقبض عليه بيديك ، وليست فعلاً سهل التطويع حتى يتجلّى لك الموضوع بين طرفين ، بين استفهامين ، بين الدجاجة والبيضة ، بين الشاعر والموسيقى.
فعلُ الكتابة لا تطوّعه محاولاتك المستميتة ، ولا رغبتك الهزيلة ، فالكتابة هي احتشاد مشاعرك وتدافع أفكارك ، هي ألا تجد حيلة تخفف وطأة هذا الاحتشاد والتدافع غير أن تمسك قلمًا وتتدفّق على ورقة "

كان هذا إحدى نصوصي لفقرة " لُقيا الصباح " الفقرة الصباحية التي يُعرض فيها أحد النصوص الأدبية ، ويُطلبُ منّا التعليق عليه إمّا بالنقد مثلاً أو الإكمال أو الرد أو كيفما كان توظيفنا للفكرة ، فالمهم أن ننجح في التغلب على بياض الورقة المُربك ، وأن تتمرس أقلامنا في سعيها من سطرٍ إلى آخر تواليًا خلال 10 – 20 دقيقة ، وأن تكتسب أفكارنا لياقة التواردِ متى استدعيناها.

وأرى أنّ لهذه الفقرة فاعليتها بالنسبة لي ، أنا التي لم أتصالح قط مع الكتابة تصالحًا كاملاً ، أعقدُ معها فتراتٍ من الهدنة وحين أعتقدُ أنّ كلّ شيء يسير على ما يُرام ، وأنّ لهذه المدوّنة بين أيديكم أن تحصلُ على أمانِ إثرائها بين الفينة والأخرى ، ثمّ وفي منتصف الطريق ، يسقطُ القلمُ على الأرض ، وأفقد لياقة الانحناء لالتقاطه ، ويأبى بياض الورقة إلاّ أن يكونّ بياضًا فجًا غير قابلٍ للسعي ولا للمرور عليه. ثمّ بكلّ بساطة تنتهي الهدنة.
ومن الواضح الآن أنّ الهدنة في منتصفها ، وأضمن استمرارها إلى وقتٍ طويلٍ إلى حدٍ ما ، بفضل تجارب الكتابة التي أخوضها في ملتقى أقرأ ، ففضلاً عن فقرة " لُقيا الصباح " هأنذا أكتبُ التدوينة السابعة خلال شهرٍ واحدٍ بعد انقطاعي عن الكتابة مدة سنة كاملة.

وهذا لرغبتي في الحفاظ على تفاصيل التجربة بوجودي في أقرأ ، فذاكرة الورق لا تشبه ذاكرتي العصيّة ، القصيّة ، ذاكرتي التي تقرر كثيرًا أن تحتفظ بانتصاراتي في أحلك زواياها ، فأضيع قبل أن أستدلّ على الطريق ، ذاكرتي التي تغتالُ وجوهُ العابرين اللطفاء متى احتجتُ حضور أطيافهم ليبددوا خيبتي بالبعض حولي ،  ذاكرتي التي تقرر أحيانًا أن تحتفظ بأوجاعي وهزائمي حاضرة لكن بعيدة حتى لا تطالها يدُ النسيان وتأخذها بذنب الوأد، تلك ذاكرتي التي لا أثقُ بها ، أما ذاكرةُ الورق لا تخوننا أبدًا ، الأمرُ يُشبه كتابة المذكرات ، كعادة تحفظُ عقودَ العمر الواحد المنبتّ ، وتجاربهُ الثريّة خيبة وبهجة ، حقيقة تثبتَّ للقادمين من بعدنا أنّا كنّا يومًا هنا.

أحبُّ أن أكتب ، وأهابُ أن أكتب ، وأريدُ أن أكتب ، وأهربُ إذ جئتُ أكتب ، فرصة ثالثة يهبي إيّاها الملتقى حتى لا تكون أسطري مستقبلاً مضطربة كهذا السطرِ الذي لم يعرف بعد موقفي منه ، أأحبه أم أهابُه ، أأريدهُ أم أرفضه.
فبعد الغد سنسلّم نصوصنا النهائية التي سنقدمها في نهاية الملتقى كتعبيرٍ عن أكثر الأفكار التي تنتمي إلينا ، عما نريدُ الإفصاح به أمام الآخرين ، كتبتُ نصًا أولاً لم أرضَ عنه ، لُغته باهتة ، وخدوشه كثيرة ،  فركنتُه جانبًا وبدأتُ من جديد ، أنهيتُ النص الثاني ، ولا أدري كيف سيكون وقعهُ على الحضور ولجنة التحكيم ، لكن يكفيني أني وضعتُ النقطة الأخيرة فيه ثمّ اتكأتُ على الكرسيّ وأومأتُ برأسي قائلة : تبدو جيّدًا كفاية لتخرجَ إلى النور.

أخيرًا قالت رضوى ذات يوم تعبيرًا عنها ، وعني " أكتب ما لا يرضيني ، وما يرضيني يفوق قدرتي على الكتابة "
لا أعدُ أحدًا بأنني سأكتبُ دائمًا ، لا أستطيع حتى أن أعد نفسي ، ستظلُّ علاقتي بالكتابة إلى أجلٍ غير مسمّى ،  هي محاولاتي في أن أكتبُ سطرًا / نصًا واحدًا أتخفف به وأرضى عنه.

الجمعة، 18 أغسطس 2017

الثراء في ملتقى الإثراء




إحدى أمنيات القراء المتكررة هي مقابلة الكتّاب ، كاتب مفضّل أو كاتب ذكي في طرحه أو مبدع في أسلوبه ولغته، أو كاتب يمتلك إجابات سلسلة التساؤلات التي تتخلّق فينا إثر قراءة نصوصه.
لكن ما الذي يحدث عندما تنقلبُ الآية ، فتتحقق الأمنية قبل أن تتمناها وتضعها في قائمة طويلة لا ضمان أو شروط ليستحيل ما فيها إلى واقع ، أن ترى الكاتب – قبل أن تعرفه - أمام عينيك ويحوم قريبًا منك في الأرجاء ، يتحدث فتُعجب بما يقول ، وتستمتع بما يطرح ، وتجلًّ منطقه في التفكير وتصفّق لأفكاره التي تُلامسك.
ثمّ تكتشف أنّه كاتب ولأنّك قارئ تلح عليك الآن حاجتك في أن تقتني كلّ كتبه ، وتقرأها في نفس الوقت وتناقشه في مضمونها وقد تطلبُ توقيعه كذكرى عظيمة تحتفظ بها ضمن أسرار مكتبتك تشهدُ على الأمنية التي تحققت قبل أن تكون أمنية.
هُنا تحديدًا أصفُ ما شعرتُ به بعد معرفتي للأستاذ محمد آيت حنّا المغربي كأحد الأساتذة القائمين على ملتقى أقرأ ، قدّم اليوم لقاء ثريًا عن علاقته بفعلي القراءة والكتابة من خلال طرحه لأفكار مؤلفه الذي يحملُ عنوان " مكتباتهم " والذي قررتُ فعلاً اقتناءه بعد انتهاء الملتقى لكن وببالغ الأٍسف لن أحظى بتوقيعه.
وهو يتحدث في الكتاب عن المكتبات الخاصة لبعض القراء كابن سينا والجاحظ وابن بطوطة وكيليطو وأفلاطون وغيرهم ويخلق فكرة جديدة استلهمها من نظام مكتباتهم ورؤاه الخاصة.
وقد أكّد الأستاذ محمد في دوره كقارئ على ضرورة حالات الانفلات التي تحدث لقارئ أثناء قراءته ، عندما تتعدد الأصوات والمشاهد في رأسه وقد تكون في غير سياق قراءته ، ويشبّه الأمر ، بفظاعة أن تشاهد فيلمًا فتكون منهمكًا بقراءة الترجمة كلمة كلمة وتركز في الأحرف حرفًا حرفًا ، فتضيع منك متعة المشاهدة وعيشها ، وهكذا يرى فظاعة أن تركز في النص المقروء بأحرفه ونقاطه وتشكيله وتتجاهل عوالم التأويلات والحياة التي يمكن أن تتجسد في ذهنك.

وفي حين دار في خلدك أن تستخدم  تلك العوالم المتخلقة في ذهنك لتمارس الكتابة ، كتابة خاطرة أو نص أو ربما قصة قصيرة.
لا داعي لأن تتخبط بين جدران حيرة البدء وترتاب من تساؤلات الكتابة ، ففي ملتقى أقرأ ، يحسبون كل شيء بدقة ، قليلاً ما يخطؤون في تبديد حيرتك أو إخماد وهج تساؤلاتك دون أن يدلوك على اتجاه الطريق في أقلّ تقدير ، وقد جاء بعدها الأستاذ خالد الصامطي كاتب القصص القصيرة ، ليحدثنا عن ماهيّة القصة القصيرة وعناصرها وتجربته في كتابة القصص ، وأجاب عن تساؤلاتنا فيما يخص هذه النوع الأدبي وفيما يخص ممارسة الكتابة.

ولأني لم أقم بالتدوين يوم أمس ولا قبله ، فسأطرحُ هنا نبذة بسيطة عما فعلناه في اليومين الماضيين.
بالأمس فُتح أمامي كتابُ التاريخ  الذي درسته منذ المرحلة الابتدائية وحتى الصف الثالث متوسط تقلبت صفحاته، وتذكرتُ إخفاقاتي المتتالية في تحقيق نتيجة مرضية في هذه المادة.
أعتقد لو كانت علاقتي مع التاريخ أفضل من ذلك ، لكنتُ أكثر استمتاعًا وفهمًا لرحلة الأمس التي ذهبنا فيها إلى مدينة الأحساء.
فكانت أول زيارة لنا في بيت المُلا = بيت البيعة وهو البيت الذي نزل فيه الملك عبد العزيز – رحمه الله – عندما قدم لمبايعة أهل الأحساء.
ثمّ ذهبنا للمدرسة الأولى في الأحساء التي أطلق عليها بعد ذلك بالمدرسة الأميرية نظرًا لكثرة الأمراء الذين درسوا فيها كالأمير خالد الفيصل وأحد إخوته ، ما كان يُميّز تلك المدرسة أنّ مدرسوها كانوا يقومون بهذه المهنة النبيلة دون مردود مادي وابتغاء وجه الله فقط ولمّا علم الملك عبد العزيز – رحمه الله – بأمرها زارها وقرر أن يلحقها بمدارس المملكة النظامية.
ومن الأمور التي تستحق الذكر أنّ راتب المدير فيها آنذاك كان 100 ريال والفرّاش 12 ريال وما بينهما الوكيل والمعلمون.
ثمّ ذهبنا إلى جبل قارة كأحد المعالم التاريخية السياحية الموجودة في المملكة التي يتراوح عمرها من 23 مليون إلى 5 مليون سنة ويرتفع بمقدار 225 مترًا فوق سطح البحر ، ومن الجدير بالذكر هنا أنّه يُمكن أن تعيش قصّة " علي بابا " ومغارة الكنز التي تواجد اللصوص فيها كحقيقة ، فالمغارة الموجودة هنا توفر إمكانية مثول الخيال كواقع ، بممراتها الضيقة وحجارتها المتماسكة والساقطة لتسدّ عليكَ الطريق ، غير أنّه لن تلدغك حيّة هنا ولن تفزع من كثرة الخفافيش ، فالمغارة خالية تمامًا من كل الحيوانات والحشرات.

أمّا فيما يخص قبل الأمس فقد كان الحديث بحضرة الأستاذ محمد القاسم عن الأكوان المتعددة واحتمالية أن يكون هناك نسخة أخرى منك في عالمٍ موازٍ آخر ، لها نفس قدرك وحياتك أو العكس من ذلك  والذكاء الاصطناعي والتعامل مع هواجس السؤال : ماذا لو تفوّقت الآلة على الإنسان الذي ما فتئ يبحث عن أسباب راحته وهنائه بصناعتها وتطويرها وبرمجتها ؟
ثمّ قدّمت لنا الأستاذة نورا النومان لقاء عن أدب الفانتازيا والخيال العلمي والفروقات في طرح كلٍ منهما في الساحة الأدبية فالفانتازيا مثلاّ هي الخيال المحض الموظف في الأدب والخيال العلمي هو ما يستند على أسس ومنطلقات علميّة بالفعل لكن بتوظيفها في سياقات الخيال ومستويات التطور فيه، وعبّرت عن كونها كاتبة فانتازيا موجهة لليافعين محاولة إثراء هذا المجال لما وجدت فيه من شحّ خلال تجربتها في اقتناء بعض الكتب العربية لأبنائها.

وأخيرًا إذا ما سُئلتُ عن مجال المعرفة التي أستقيها هنا سأجيب : أني آخذ من كل بحر قطرة ومن كل بستان زهرة ، ملتقى أقرأ يهبني المفاتيح ، وأقرر أنا البحث عن الأبواب واستكشاف ما خلفها.
كم تجربة كملتقى أقرأ يُمكن أن يعيش الإنسان في عمره الواحد ؟ وبما أني لا أملك الضمان في الإجابة.

أكتفي باعتقادي بأنّ العمر الواحد ، تُثريه تجربة ملتقى أقرأ واحدة، وها أنا بفضل الله أعيشها.

الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

اليوم الثالث في ملتقى أقرأ 2017




" كلكم شعراء " أنا شاعرة .. نعم ، كنتُ أعرف هذا منذ زمنٍ ، أعرفُ هذا عندما أكتب أو أقرأ أو أقدّم برنامجًا ، أعرفُ جيّدًا أن لحظات الاختناق التي تمر في حياتي هي المنفذ الأول حتى تتنفس الشاعرة فيّ.
لكني كنتُ أواري سوأة هذه الخواطر المارّة ، حتى لا تفتضح سذاجتي في عالمٍ يُقرّ بالعقل ومنطقه أكثر من القلب وعاطفته ، أما اليوم امتلكتُ جرأة الجهر بها ، لأنّ الدكتور سعيد السريحي منحني الفرصة في ذلك و قال بصوتِ جهور و واضح ، كلنا شعراء ! كان هذا عنوان محاضرة اليوم الثالث من الملتقى " كلكم شعراء ".
حيث تحدّث عن الشعر كممارسة إنسانية تحدث كل يوم ، فمثًلا الأمّ المفجوعة في أحد أبنائها شاعرة : فهي لا تستطيع أن تعبّر عن فجيعتها ، بكلمة رتيبة وبسيطة لتقول : أنا حزينة. وكم يبدو الحزن باردًا أمام فاجعة كهذه.
لكنّما شدّة الفاجعة ستجعلها تستخدم عبارات من قبيل : انفطر قلبي ، اسودت الدنيا في عينيّ.
قلبها حقيقة لم ينفطر ، والدنيا حقيقة لا زالت بنفس ألوانها ولم تسودّ ، لكنه الإنسان الشاعر في أكثر حالاته الشعورية شدة وأحلك مآزقه أو أعمق لحظات تخففه وتحليقه وسعادته.

وحتى يحضر الشعر نحتاج فقط أن يوجد الإنسان ويتجلّى الجمال.

فالشعر نظرتُك التي فقدت بريقها ، والشعر رقصتُك في احتفال ما ، والشعر شوقك حين تحتضن اللقاء ، والشعرُ طفلكَ وهو يحاول حفظ الأسماء ، والشعر فرحتك ولهفتك وبؤسك وشقاؤك ونعيمك.

وكم كنتُ مفتونة بكل ما كان يقوله الدكتور سعيد وهو يدغدغ فيّ قداسة الشعر لديّ ، وهو يمنحني الحق في أن أكون شاعرة ، أنا التي لم أنظم في حياتي بيتًا واحدًا ، أنا التي تكلل خيبة التعبير لحظات استغاثتي باللغة أحيانًا. شكرًا دكتور على كلِ ما قلته وكلّ ما أرويتني به شكرًا لأنك قلتَ عبارتين لا زالتا ترنان في أذني ( الشعر يقف بيننا وبين ما يخالط الحياة من قبح ) ، ( الشعر هو مقاومة الإنسان للموت ).

والآن أذكر صوت الأستاذ عمر وهو يقول لنا بعد انتهاء المحاضرة : اصعدن إلى غرفكن واحزمن أمتعتكن ، حتى ننطلق جميعًا إلى أجمل مكان في المنقطة الشرقية ، ويبدو أن مشاركي أقرأ بدؤوا يفهمون قواعد اللعبة ويسبرون أغوار المفاجآت ، ويعدّون استنتاجاتهم الصائبة ، لكنهم لم يستطيعوا بعد أن يحجبوا أنوار الدهشة عن أعينهم ، أدركتُ ذلك وأنا أسمع تكرار كلمة " وااااو " من الجميع منذ وصولنا إلى أجمل مكان في المنطقة الشرقية ، منذ وصولنا إلى مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي وحتى خروجنا منه.

ولتكن فاتحتي في الحديث عنه الآن " وااااااو "
واو: ونحن نسمع الأستاذة نوف حين أخذتنا في جولة ابتدأتها بعبارة ، انظروا إلى الأعلى  ، لو تم إخراج أنبوب واحد من أنابيب السقف سيصل ما بين مدينتي الدمام والرياض.
واو: ونحن ندخل مكتبة المركز المكوّنة من 4 أدوار لكلٍ منها قصة وحكاية ففي الدور الأول مثلاً تقدّم خدمات القراءة والتعلم للأطفال بغرف خاصة مغلقة وأخرى مفتوحة ويوجد متحف للطفل هو الأول من نوعه.
واو : ونحن نسمع الأستاذ طارق الخواجي حين قال أنّ لدينا شاشة بانورامية نادرة في وجودها في المكتبات حول العالم ونضع الكتاب عليها فتنبثق حكايته ماثلة أمامكم ، من سبقت له مشاهدة فيلم العصور الذهبية للمسلمين سيعرف ما أعنيه.
واو : وهو يقول لنا أن هذا الدور – الدور الثاني – يسمى بالفضاء الاجتماعي ، حيث تُكسر فيه القاعدة المتعارف عليها في المكتبات
( هدوء / الرجاء عدم الإزعاج ) وهنا منطقة للأكل وشرب القهوة وهناك منطقة للنوادي والمجموعات القرائية ، ثم يشير إلى بعض الصناديق الزجاجية ليقول : أنها ستحوي الكتب العالمية التي توجد بنسختها الأولى والنادرة.
واو : ونحن نرى الشاشات الذكية وأرفف المكتبة الفريدة في تصميمها والمقاعد المتعددة والمميزة.
تسألُ إحدى المشاركات الأستاذ عن موعد افتتاح المكتبة ليقول الأسبوع القادم سنبدأ برصف الكتب وتجهيز المكتبة وسيكون افتتاحها بداية السنة الميلادية الجديدة.

يتحسّر البعض لأنه يقطن في الرياض ولا يقطن في المنطقة الشرقية ، فقلتُ لهن بكل حزن : ما حيلة من يقطن في المنطقة الغربية إذن !
فهذه المرة الأولى التي أزور فيها المنطقة الشرقية ولا أدري إن كانت ستتكرر زيارتي خلال السنوات المقبلة.

وبعد انتهاء جولتنا أطلقنا الوااااو الأخيرة حينما دخلنا إلى قاعة السينما ذات الكراسي الملونة في مدرجاتها ، جلسنا وتمّ عرض فيلمين سعوديين قصيرين حصريين علينا.
الأول كان بعنوان : لا أستطيع تقبيل وجهي.
والثاني بعنوان : فضيلة ألاّ تكون أحدًا.

قراءتي للفيلم الثاني هي كالآتي: 

-        الغرباء هم سطر خاطرة فاضحة لهواجسك لوجعك أو ضعفك أو رفضك أو غضبك ، بعد أن انتهيت من كتابته ، قررتَ مسحه تمامًا وكأنك لم تكتبه ، الآن لا دليل يُدينك ولا تهمة ستُلقى على عاتقك.
لأن الغرباء هم عابرو الطريق ، الوجوه التي نراها ثمّ لن نراها ولذلك لا يُريبنا معهم البوح ولا الإفضاء.
ماذا لو قررتَ أن تبوح بوجعك أو ضعفك أو رفضك أو غضبك أو هواجسك ، لشخصِ يعرفك جيّدًا ، خطورة الأمر تكمن في أنّه سيكون سطر خاطرة يستعصي على الحذف والإلغاء ، لن تُفلت من قيود الإدانة ، فأنت قد اعترفت والاعتراف هو سيد الأدلة.
-        أتذكر آخر شخصٍ غريب جلس بجانبك في صالة انتظار أو مقعد طائرة أو قطار ، أتذكر كل القصص التي أفضى إليك بها أو ربما أوجاعه التي تلاها عليك ، أعطني دليلاً واحدًا يُثبت أنّ كل ما قاله لك هو تجربة قدّ مر بها شخصيًا ولم يكذب عليك بقصة شخصٍ آخر انتحلها هو لأي غرض في نفسه وأخبرك بها على أنه صاحبها.
حسنًا ما الذي يعنيه أصلاً أن يكذب الغرباء علينا أو يصدقوا معنا ؟ طالما أنّ ما قالوه هو تجربة إنسانية إن لم تكن لهم فحتمًا قد حدثت مع غيرهم.
هكذا قرأتُ الفضيلة التي أشار إليها صاحب عنوان الفيلم " فضيلة ألاّ تكون أحدًا "

وأخيرًا نهضنا من على مقاعدنا ، إيذانًا بموعد الرحيل ، ماذا حدث عند الخط الفاصل في بوابة المركز ، الخط الذي لفظ أرجلنا اليُمنى أولاً خارجه وفي حين حاولت أرجلنا اليُسرى أن تثبت نفسها داخل المركز ، لفظها هي الأخرى ، تقطبت الحواجب وانكمشت الوجوه ، هل كان السبب فعلاً حرارة الشمس ولهيبها أم كان تعليقًا أبديناه حتى نواري حزننا من انتهاء هذه التجربة. انتهى اليوم الثالثُ هنا.


ملاحظة : تقضم تدوينتي حق المركز في وصفه ، لذلك اطلعوا على الموقع الالكتروني الذي يخصه ، حتى تدركوا حجم القفزات الثقافية و المعرفية التي تحدث لدينا.

الاثنين، 14 أغسطس 2017

ملتقى أقرأ :أشخاصه وأشياؤه








" ما من جواب تستطيع أصابعنا الخمسة التقاطه " كانت هذه العبارة جزءًا من مقدمة الأستاذ طارق الخواجي التي ألقاها علينا كتحية ترحيبية في اليوم الأول من وجودنا في ملتقى أقرأ الإثرائي 2017.

وكأنه يعطينا سر المعرفة ومفتاح الوصول، وهو ببساطة أنّ لا شيء ثابت وموثوق ، كل شيء يمكن تهديد ثباته بالأسئلة ، كل شيء يمكن تأويله بالأسئلة ، كل شيء قابل لأن يكون كما أرى ، كما يرى ، كما ترى ، وبقدر ما نعرف !

وكأنّ العبارة التي قرأتها ليلة سفري قدرًا، كانت الشيفرة التي حملتها معي لفهم العالم حولي هنا ، حيث يقول فيها كارل ياسبريس " إنّ الأهم في المعرفة هو السؤال ، ويجب أن يتحوّل كل جواب إلى سؤال من جديد " فجعلتها تهويدتي كل ليلة.
نحن هنا في الدمام لخوض تجربة الملتقى الإثرائي وهو المرحلة الثالثة من مسابقة أقرأ في موسمها الخامس والتي تعد مبادرة لأرامكو السعودية – مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي ، تأهلنا كخمس وعشرون قارئة وثلاثة عشر قارئًا من مختلف المستويات الدراسية منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية.

نتواجد في الفندق الذي تمّ إعداد كافة التجهيزات اللازمة فيه لسكننا وراحتنا وعيش تجربة الملتقى ، حيث توجد القاعات في جهات مقفلة وخاصة من الدور الأرضي للفندق.
أحببتُ الاحتفاء الواضح بنا من الجميع هنا ، الكلَّ يمنحك ابتسامات الترحيب واللطف في كل وقتِ وحين ، الكل يُصغي إليك ويسعى إلى راحتك ، يسألُ عن نومك ؟ عن يومك ؟ ومستويات دهشتك وبهجتك ؟
شعورٌ بالألفة سريًعا ما تخلّق فينا كمشتركين ، ألفة إلى المكان وفريق المسابقة وبين بعضنا البعض كمشتركين.

المكان مجهزّ بكل ما يتعلّق بالمسابقة وبكل ما يمكن أن يخلق حالة الاستلهام لدينا ، بدءًا بشعار الموسم هذا " أقرأ .. العبور إلى الحياة " والتصميمات المختلفة المتميزة الموجودة حولنا ، كل مكان هنا هو مكتبة ، انظر يمينك ستجد كتابًا ، وانظر يسارك ستجد آخرًا ، والثالث ستجده أثناء مرورك من جهة المصعد إلى صالة الاجتماعات ، أخفض بصرك قليلاً حتى تنتبه للكتاب الموجود على الخشبة التي تم وضع إحدى شاشات العرض عليها ، الوجبات الموجودة كل وقت حتى أن الجوع الذي يتوفق في اصطيادي والتنكيل بي عادة ، يفشل في مهمته هنا وأنا محاطة بكل هذه العناية وهذا الاهتمام.

والآن دعوني أخبركم عن البعضِ هنا :
أستاذة منيرة و أستاذة لبنى الجميلتان اللتان كلما نظرتَ إليهما تجد في عينهما شكرهما وامتنانهما على وجودك هنا وكأنك صاحب الفضل لا هما ، أراهما حولي كلما التفت وكأنهما يطمئنان أننا على يُرام ،  سعيدون بما يكفي ، غارقون في أقرأ كما ينبغي ، كلما نظرتُ إليهما راودتني رغبة ملحة في أن أقول شكرًا للجميع هنا شكرًا لكما تحديدًا.
أستاذ عمر مقدّم الفعاليات ، وروحه الخفيفة المرحة ، التي لا نفلتُ بسببها من حيله المتعددة لإضحاكنا وكنّا فعلاً نضحك.

أستاذ طارق الخواجي الأب الروحي لأقرأ – كما وصفه الأستاذ عمر – لم يبدو لي مألوفًا إلى هذه الدرجة لا أعلم. سمته وقورة نظراته نظرات الأب المربي ، يحاول باستمرار أن يقرأنا ، يفهمنا ويتأكد أننا نحافظ على بريق تساؤلاتنا ، و وهج أفكارنا حاضرًا مع كل نقاش وفي كل فعالية.

أستاذ محمد القادم من بلاد المغرب والذي أنتبه إليه انتباهًا كاملاً كلّما تحدّث ، وأنا أكبّر في نفسي وأبارك موسوعيته الثقافية ، ورؤآه الفكرية النيّرة ، لم أستطع أن أحافظ على لجام فضولي وعندما سألتُ عنه اكتشفتُ أنه كاتب ومترجم ، وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة ،فقررتُ الاستفادة منه قدر ما أستطيع.

عضوات المجموعة التي أنتمي إليها ، زينب طالبة التمريض والقادمة من الرياض ذات الوجه البشوش والضحكة الحاضرة ، لا تحتاج للبحث عنها لتعرفها ، فهي ما إن تتواجد في المكان ، حتى يقدّم لها المكان تحاياه الحارّة بما يتعلق بأفكارها وتساؤلاتها واحترامها للآخرين ، لا تترك أسئلتها معلّقة وتسعى بدأب لإيجاد الإجابات.

أمّا غدير خريجة إدارة الأعمال ذات اللهجة " الحساوية " اللطيفة والتي تعلق زينب على جمالها باستمرار ، يُدهشك نتاج صمتها ، فبقدر ما تفتقد صوتها حولك وفي الأرجاء ، ستكون متأكدًا بأنها حين تثبت وجودها ويحضر صوتها ، ستدهشك ، بفكرة أو تعليق أو وجهة نظر معينة تطرحها ،  ما الذي يحدث داخل عقلك يا غدير ! هل هي عمليات معقدة أو بسيطة في التعامل مع المعرفة ؟ هل ترهقك  ولذلك تصمتين كثيرًا ؟ أم أنك من فرط دقتك وعنايتك ، تكررين عمليات الصقل والتجويد والتحسين ؟ لتعبّري عنكِ كما تستحقين فعلاً.

وبالنسبة لنورة طالبة القانون ، التي أضمن لك أنك لن تملّ في أي جلسة حوار أو نقاش تدورُ بينكما  ، بدءًا بالحديث عن شغفها في القانون ، وانتهاءً بمواقفها الصارمة إزاء كل ما تراه وتعرفه وتتعامل معه ، لا تقبل الأمور معها التمويه ولا التميّع ،وبرغم ذلك كلما تحدثت وسمعت صوتها ، تتسآل: كيف يكون للصرامة والحزم وجهٌ أملس ولطيف ؟ اسأل نورة وستجيبك.
أخيرًا الأستاذة سارة مشرفة مجموعتنا ، المتفانية في مساعدتها وعطائها لنا ، الأخت والصديقة كما تحب أن نصفها ، نظراتها الواثقة فينا هي عصاتها السحرية لتخرج أفضل ما لدينا ، كل ضروبِ الإبداع بالنسبة لها ممكنة وحاضرة بين يدينا ، تقف في وجه العراقيل والمخاوف التي تعترض طريقنا ، لتحمينا مما نخافه وتؤكد بأننا قادرون جميعًا على أن نكون الفائزين.

هؤلاء ليسوا كل عائلة المسابقة ، وإنما صورة مجتزأة من الصورة الكليّة ، صورة تحاول أن تحكي لكم روعة الأشخاص الذين أشاطرهم المكان هنا.

من أين لي بتقويمِ أيامٍ لا تطوي صفحاتُه نفسها ،  لا تقوّض قدرتي على إيقاف الزمن حتى أمتلأ بالمكان وأشخاصه وأشيائه ، حتى أتزوّد بما يكفيني منهم لعمرٍ كاملِ قادم قد لا تتقاطع فيه الطرق ويعزّ اللقاء ويتلاشى كل شيء كأنه لم يكن ولم يحدث.




الأحد، 13 أغسطس 2017

اليوم الأول في ملتقى أقرأ 2017


الأحد 21 / 11 / 1438 هـ
لماذا شاركتِ في مسابقة أقرأ ؟
لأن الدخول إلى عالم أقرأ بالنسبة لي كان حلمًا والأحلام قليلاً ما تتحقق ، السؤال بالنسبة لي يبدو على هذه الشاكلة ، لماذا قبلت أقرأ بوجود أصالة في عالمها ، شيئًا فشيئًا تتضح الإجابة : كي تدهشني وتغذّي رباعية الشّغف عندي ( اللغة ، القراءة ، الكتابة ، الإلقاء ).
هذه الإجابة التي قفزت إلى عقلي في جلسة النقاش الأولى من اليوم الأول في الملتقى ، لكن ومع الزحام وطول المناقشات لم يتسنى لي طرحها فقررتُ طرحها هنا.
أقرأ " نورٌ على نور " نور الدهشة الذي ينبثق إثر كل فعالية وخطوة نخطوها ، لا شيء واضح ، لا شيء معروف ، حتى وهم يطلعوننا على جدول الفعاليات اليومية يفضلون أن يبقى كل شيء مبهمًا وقابلاً لقراءاتنا المتعددة ، في جدول اليوم مثلاً كُتب:
-         ما هي الدهشة ؟
-         وتأتي الفكرة | 5:00
-         سؤال العيش المشترك | 6:00
-         تشابك |7:30
ما الذي يُمكن فهمه من مثلِ هذه الكلمات والعبارات ، وفي حين وجّهنا سؤالا استفهاميًا لأحد أعضاء فريق العمل تكون الإجابة الموحدة : مفاجأة.
ويبدو أنّ قانون الدهشة والمفاجآت هو قانونهم الأول في كل ما يقدمونه لنا ، لهذا قررتُ الاستسلام طواعية لكل هذا الإبهام والغموض وأصبحتُ أستمتع بالخطوة التي لا أعرف فيها إلاّ موضع قدميّ وأنا واثقة أنّ النور سينبثق على إثر الخطوة القادمة.
النور الثاني في عالم أقرأ هو الحصيلة المعرفية الثمينة التي نحصل عليها من خلال الفعاليات.
فمثلاً  " سؤال العيش المشترك " كان عنوانًا لمحاضرة ألقاها علينا الأستاذ عبد الله الخطيب ، وهنا حلمٌ آخر تحقق ، كثيرًا ما شاهدت عبر اليوتيوب المحاضرات الثقافية المقدمة في مكتبة تكوين الإبداعية في الكويت أو المحاضرات المقدمة في مركز سيدانة الثقافي في جدة ، تخيلتُ نفسي بين الحضور ومعهم ، منتشية بفلسفة قارئ ما إزاء ما يقرأ أو خلاصة تجربة كاتب فيما يكتب ، أو طرح مثقف لموضوع ضمن مجالات اهتمامه الثقافية ، اليوم فعلاً كنتُ هناك أو هنا ، لا فرق ، فعلى المنصة وجُد المثقف وفي الصفوف الأولى جلس بعض الكتّاب ، والقرّاء حولي يزهرون في كلّ مكان ، تدثرتُ حينها ببردة الأمان.
تحدّث الأستاذ عبد الله عن النزعة الاجتماعية للإنسان من منظور فلاسفة متعددين ، واتكأ بالأكثر على اتجاه الفيسلوف تودوروف في طرحه وبالأخص في فكرة حاجة الإنسان إلى الاعتراف بوجوده في إطار معنيين
المعنى الأول الضيق يتمثّل في " الاعتراف بوجوده ككيان مستقبل " والمعنى الأكثر شمولاً واتساعًا يتمثل في التأكيد على قيمته بلونه وجنسه وفكره ودينه ومذهبه وتوجهه "
فنحن كبشر قد نحتمل فكرة أن يرفض الآخر شيئًا فينا أو منّا لكن لا نحتمل فكرة تهميشنا والتعامل معنا على أننا غير موجودين وتنوّع طرحه بعد ذلك  حول موضوع المثاقفة والممارسات الثقافية على مستوى قيم المعرفة ، بالنسبة لي كان طرحهُ ثريًا و وجدتُ جوانب كثيرة قاربتُ بينها وبين تخصصي الدراسي في الخدمة الاجتماعية ، ومن جملة العبارات الملهمة التي قالها مسشتهدًا بصاحبها : أن تكون تلميذَا يعني أن تتعلم كيف تنهض في الحياة "
بعد انتهاء تلك المحاضرة الماتعة تمّ أخذنا في رحلة ، ركبنا الباص ونحن نجهل وُجهتنا ، الآن لم أتكبّد عناء التفكير في الوجهة والحدث ، بعد مرور نصف ساعة تقريبًا وجدنا أنفسنا أمام جمعية الثقافة والفنون في مدينة الدمام ، أوه يبدو الأمر مثيرًا ، نزلنا وجلسنا في الصفوف الأمامية ، ونحن نجهلُ إلى ذاك الحين ما الذي سيحدث وفجأة ومن بين الظلام ظهر وجهان من خلف الطاولة التي كانت على المسرح أحدهما من اليمين والآخر من اليسار ، ما الذي حدث ؟ التفاتة واحدة على الجمهور الكريم تقرأ من خلالها علامات الانتباه الكامل والتساؤلات المفخخة المطروحة في أعينهم ، والابتسامات المشدوهة ، والضحكات المتعالية بين الفينة والأخرى ، التحايا الحارة التي كانت تقطع العرض المسرحي كل مرة ، تُدرك من خلال كل ذلك أنّ ما حدث لم يكن عاديًا ، والاستثناء كان كامنًا في تكرار الحضور لعبارة " أول مرة أحضر مسرحية "
فكيف والمرة الأولى تُكلل بكل هذا التوفيق والنجاح ، كان عنوانها " تشابك " ، وتنتمي إلى المدرسة الملحمية ضمن فنون المسرح والقاعدة الأولى فيها هي ( كسر الإيهام ) وهذا يعني أنه من فور اعتقادك إثر مقطعٍ ما بأنك فهمتَ المعنى وقبضت على جوهر الحدث ، تدرك أن محاولتك ، كانت محاولة فشلِ ذريع ، أنت هناك فقط لأجل الأسئلة ، لأجل أن تتخبط بينها ، وتخلق المزيد منها ،  وتقف على كل الاحتمالات وترى الوجوه المتعددة للحقيقة.
كنّا على المسرح أنا وكلّ الحضور وأنتّ ، حاول الممثلان المبدعان عبد الرحمن المزيعل وسامي الزهراني أن يجسدا الحوار الأزلي القائم بينك وبين أناك ، حاولا أن يقفا في تلك المنطقة الحساسة التي تشعر بسببها دائمًا بأنك كلُّ واحد في قمة تناقضاته.
الآن وفي نهاية يومي الأول في الملتقى أشعر بفورة الأفكار في عقلي ، ولم تشبع هذه التدوينة القصيرة في طولها والمبخسة في محتواها حاجة البوح والإفضاء والاتساق لدي .
أنا هنا بسبب القراءة وأكثر ما أمارسه شخصيًا هو التدوين والكتابة ، وأجهز لإلقاء فكرتي التي ستكون نتاج وجودي في هذا الملتقى ، واللغة حاضرة في كل ذلك ، عالم أٌقرأ فعلاً " نورٌ على نور "




الخميس، 10 أغسطس 2017

القيم / دورة المعرفة الذاتية



أرفق هذه المقالة في المدونة كتوضيح أكثر تفصيلاً حول موضوع " تحديد البناء القيمي الشخصي " كأحد محاور دورة المعرفة الذاتية التي قمتُ بتقديمها يوم الأربعاء الموافق 17 / 11 / 1438 هـ ضمن سلسلة دورات الذكاء الذاتي والتي أهدف من خلالها إلى تفعيل دوري الوقائي والتنموي مع أفراد المجتمع كأخصائية اجتماعية محاولةً رفع الكفاءة الذاتية الخاصة بهم في مواجهة مواقف الحياة والتصدي لعقباتها ومشكلاتها والتعامل بفعالية مع تجاربها وخبراتها من خلال اتخاذ القرارات التي تحقق للفرد أقصى استفادة ممكنة من قدراته وإمكانياته ومساعدته على تحديد أهدافه وتحقيق مستويات جيدة من النمو.

حيث جاء هذا الموضوع من  حيث أهميته في تكوين الوعي بالذات و مساعدة الفرد على تحديد أولويات حياته وتسهيل عملية اتخاذ القرارات فيها كقرار اختيار التخصص الجامعي مثلاً أو اختيار شريك الحياة بالإضافة إلى دور القيم في تقويم سلوكيات الفرد كمعيار يُحتكم إليه.

درج الخلط بين مفهوميّ المبادئ والقيم لدينا وكثيرًا ما اقترن ذكرهما ببعضها البعض ، ولأنّ موضوعات القيم عامّة من الموضوعات التي تقع ضمن حيّز اهتمامي ، حضرتُ العديد من الدورات التي تتحدث عنها وحولها ، فضلاً عن مساهمتي في إعداد بعضها ، بالإَضافة إلى قراءاتي في هذا المجال ، وعلى إثر ذلك أطرح لكم تعريفاتي البسيطة التي أحاول من خلالها إجلاء الخيط الرفيع الفاصل بين مفهومي المبادئ والقيم ، والباب مفتوحٌ لكل الاجتهادات المماثلة والتي ستفيدنا بالتأكيد.
المبادئ  :هي القواعد الأساسية التي تحكم علاقاتنا مع الله ثمّ الكون والبشر وتفاعلاتنا مع البشر ( كمسلمين تعتبر المبادئ الأخلاقية في الدين ).
طبعًا هذه لا فصال ولا جدال فيها مثل العدل والصدق والصبر والبر والأمانة والإيثار وغيرها من المبادئ التي نعترف بوجودها كمسلمين لكن لا تحكم جميعها سلوكياتنا ولا بعضها بنفس الدرجة.
القيم : هي التفضيلات مادية كانت أو معنوية لفرد أو جماعة أو مجتمع.
حين نقول أنها تفضيلات فهي ليست فقط تفضيلات أخلاقية ومعنوية لكن قد تكون أيضًا مادية ، فهي كل مفهوم ذا شأن وقيمة لدى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات ، مثل قولنا بوجود مجتمعات تسودها القيم المادية النفعية ، هذا يعني أنّ غالب القيم المادية تسود القيم المعنوية لديهم ، انفعني لأنفعك لا توجد قيمة للإيثار أو البذل أو توجد لكنها متدنية ، على مستوى الفرد مثلاً قد يحاول الفرد الحصول على المال متجاوزًا العديد من القيم المعنوية كالأمانة والصدق وغيره.
وهنا عدتُ لذكر الأمانة والصدق كقيم معنوية في حين أني ذكرتها سابقًا كمبادئ
فأعود للتأكيد أننا نقر بوجود المبادئ لكن لا نتصرف جميعنا على أساسها ، لكن حين نقول أن هذا الشخص يعتبر الأمانة قيمة مهمة لديه هذا يعني أنه بالضرورة يتصرف على أٍساسها لأنها جزء من بنائه القيمي الشخصي.
إذن مبادئي كمسلم ، وقيمي الشخصية كفرد.

أذكر هنا مثالاً توضيحيًا للعبة قديمة جرّبها البعض ، تدور حول سؤال ( فيم لو تخييرك بإلقاء البعض من السفينة حماية لها من الغرق والإبقاء على شخص واحد فمن سيكون ؟ )

لو كانت قائمة الموجودين تدور حول الأم والأب والأخ والجار وشخص غريب
سيكون التفاضل بين الخيارات السابقة نابعًا من منطلقات المبادئ المتعلقة بالدين أمامنا كمسلمين ، هذا يعني أنك قد تتخلّى عن الشخص الغريب أولاً من منطلق أنّ الأقربون أولى بالمعروف ، والجار له حصانته بوصاية الرسول صلى الله عليه وسلم عليه ، ثمّ تتخلّى عن الجار مقابل الأهل ثمّ عن الأخر مقابل الوالدين ، ثمّ قد ترجح كفّة الأم التي ذكرت فيها الوصية ثلاًث مرات مقابل المرة الواحدة للأب.
لكن ماذا لو كان في السفينة أخان لك ، كيف ستفاضل بينهما ؟
دعنا نفترض أنّ الأخ الأول قدّم لك في حياتك تضحية طالما عبّرت له على إثرها أنك لن تنساها له ، والأخ الآخر لديه عائلة زوجة وأبناء. هنا يمكن للتفاضل أن يكون على أساس القيم ، ففيم لو كنت شخصًا تُعلي قيمة التضحية وردّ الجميل فيسكون أخوك الآخر كبش الفداء ، وفيم لو كنت شخصًا تُعلي قيمة العائلة ، سيكون أخوك الأول هو كبش الفداء.

ولن تكون مخطئًا في الحالتين ، فعند الحديث عن القيم لا توجد قيمة صحيحة وأخرى خاطئة ، ولكن يوجد توظيف صحيح لقيمة وتوظيف خاطئ لها.
وهنا تجدر بي الإشارة إلى أولئك الذين يقدّمون لنا نصائحهم وتوجيهاتهم عندما نصل لمفترقات طرق الاختيار في حياتنا، فنجد أن كل واحدٍ منهم يعطينا سلسلة طويلة من النصائح قوامها منطلقاته القيمية الخاصة به ، وهذا لا بأس فيه ، لكن العجب فيمن يتعامل مع هذه النصائح على أساس كونها الوجه الوحيد للصواب وما يجدر اتخاذه أو فعله ، كل منظومة قيمية تعبّر عن حياة صاحبها وشخصيته وبيئته وربما تجاربه وخبراته.

أمّا عن أنواع القيم فقد تعددت تصنيفاتها واختلفت حسب منطلقات العلوم الباحثة فيها ، وهنا أضع التصنيف الأقرب لمجال حديثنا :
أنواع القيم:
1- القيم الدينية:  هي التفضيلات التي يُعليها لنا الدين بخصوصها في علاقتنا بالله عز وجل مثل استشعار مراقبة الله ، الخشوع والرجاء و غيرها ، نلاحظ أنها تعبر عن المبادئ بشقها المتصل بعلاقتنا مع الله
2- القيم الاجتماعية : هنا التفضيلات التي تربطنا في علاقتنا بالبشر مثل الإيثار والعطاء وهنا تعبر عن المبادئ في شقها المتصل بعلاقتنا مع البشر.
3- القيم الاقتصادية: تفضيلات المال والاستهلاك والانتاجية.
4- القيم السياسية : التفضيلات المتصلة بعلاقة الحكومات بشعوبها والحكومات ببعضها البعض والعلاقات القيادية
5- القيم المهنية أو العملية : التفضيلات في ميادين العمل كالالتزام والانتاجية والتطور والإبداع
6- القيم الجمالية.المتعلقة بتفضيلات الناس حول الأذواق والفنون
7- القيم النظرية : المتعلقة بتفضيلات الناس في ميادين العلم والمعرفة والفكر بحثًا عن الحقائق القوانين التي تحكم الأشياء.
وبالتأكيد كل ما سبق بالنسبة لنا كمسلمين مرجعيته الدين.

أمّا عن مناط حديثنا " القيم الشخصية "
فهي التصنيف الانتقائي من كل ما سبق بالإضافة إلى قيم تحقيق الذات مثل النمو الشخصي والتميز والطموح.
وقد ذكرتُ بداية أهمية وجود القيم الشخصية ، وتتعدد مسمياتها كالسلم القيمي الشخصي أو التدرج القيمي الشخصي أو الهرم القيمي الشخصي.
هذه التسميات نسبة للتفاضل بين القيم لدى كل منّا لأنها لا تمثل لنا نفس الدرجة من الأهمية والأولوية وهنا يتضح أكثر دورها في تحديد أولوياتنا وقراراتنا.
ويوجد ترتيب يقابل هذا الترتيب وهو الترتيب العشوائي للقيم الذي يخضع لظروف وضغوط معينة كشخص تكون قيمة الصحة لديه في الدرجة الثامنة من الأهمية مثلاُ ( فهو لا يمارس الرياضة ولا يهتم بما يأكله ولا يلتزم بالوجبات الغذائية أو لا يلتزم بتناول أدوية مرضه المزمن ) فإذا تعرض لوعكة أو مصاب صحي اعتلت قيمة الصحة قائمة أولوياته لتصبح في الدرجة الأولى.
وقد نسميها منظومة القيم الشخصية كونها كل متكامل أخذنا فيه من كل نوع وبترتيب معين قدّم لنا شخصية ومجموعة سلوكيات متفردة لكل واحد فينا.

وأخيرًا أرفق هنا اختبارين لتحديد البناء الشخصي القيمي الأول فيهم للباحث في مجال القيم باريت من خلال موقعه ، والثاني منهم فهو من خلال الإجابة على مجموعة من الأسئلة المباشرة :
اختبار مركز باريت للقيم على هذا الرابط :

بعد القيام باختيار القيم يتم إرسال رسالة على بريدك الخاص بالنتيجة التي ستقوم بقراءتها ومطابقتها مع واقعك.
الاختبار الثاني هو من خلال الإجابة على أسئلة اكتشاف القيم المباشرة :
س1/ ما هو أهم شيء بالنسبة لك والذي لا يمكنك التنازل عنه ؟
س2/ متى تشعرين أنّك بقمة حماسك وفرحك أو بقمة استيائك وحزنك ؟
س3/ ما الذي يُلهمك في قدواتك ؟ هل أنتِ مستعدة أن تكوني
قدوة في نفس المجال ؟
س4/ما الذي تستطيعين بذل مالك وقتك وجهدك في سبيل الحصول عليه أو الوصول إليه ؟
ثمّ لتسهل عليك مهمة ترتيب القيم التي حددتها من خلال أحد الاختبارين السابقين ، فضع نفسك أمام أسئلة تفاضلية ، مثلا إن كان المال والعلم من القيم الهامة بالنسبة لك ؛ لتحدد أكثرها أهميّة اسأل نفسك ، هل تستطيع العيش في مستويات دنيا من الكفاف مقابل أن تكون متعلّما ؟ أو تستطيع أن تحيا بنطاق ضيق من العلم والمعرفة مقابل حيازتك على المال ؟

وعلى هذا الرابط ستجدون قائمة كبيرة تتكون من 170 قيمة يمكنها مساعدتك في تحديد البناء القيمي الشخصي الخاص بك وفي حال وجدت أنك تميلين لقيمتين متقاربتين كالالتزام والانضباط الذاتي مثلاً فخذي القيمة الأعم وهي الالتزام.

وهنا رابط أخير يحوي مقالة للدكتور جمال بن عمار الأحمر الجزائري عن القيم الشخصية وهي من أهم المقالات التي قرأتها في هذا المجال لتعدد مراجعها وثراء مضمونها وتفصيلاتها ، قد تفيد الباحثين عن الاستزادة في هذا المجال.


تحيّاتي : أصالة كنبيجه