شهر
مبارك علينا وعليكم وتقبل الله منّا ومنكم صالح النوايا والأعمال
يأتي
رمضان كل عامٍ مزهوًا بتفاصيله ولقاءاتنا العائلية وعاداتنا فيه كلّ حسب أسرته
وبيئه ومجتمعه ، فنجد في كل بيت قصة وعلى كل مائدة تفضيلٌ لوجبة وعلى الوجوه أنسٌ
يحتفظ بأسرار الروحانية التي يبثها رمضان فينا.
وبشكلٍ
شخصي أصنع لنفسي نظامًا خاصًا يسهل الالتزام به في ظلّ قلة الارتباطات الاجتماعية
في رمضان ، نظامًا أخرج منه ببعض التحسينات والإصلاحات الذاتيّة بعد توفيق الله.
ومما
أعمل عليه هو محاولة التعاطي مع فعل القراءة بوعيٍ وانتباهٍ أكثر يفوق ما يكون لي
معه سواء أيام الدراسة أو في باقي أيّام الإجازة المتعددة في ارتباطاتها و
واجباتها العائلية أو الاجتماعية ، حيث
تكون النفس في رمضان في حالة من حالات سكينتها والقلب في حالة من حالات انشراحه
وطمأنينته والعقل في حالة من حالات هدوئه وراحته.
وعلى
إثر ذلك يكون الفعل القرائي بالنسبة لي أكثر فاعليّة ، وقد بدأت إجازتي ورمضاني
هذا العام بقراءة كتابٍ ممتع في مجال الثقافة والفكر وهو كتاب ( أوهام النخبة ، أو
نقد المثقف ) لكاتبه الدكتور علي حرب.
تناول
الكتاب العديد من الأفكار والمحاور أذكر منها على سبيل المثال هنا :
فكرته
الرئيسة القائمة على نقد دور المثقف الفاقد لفاعليته اليوم بكونه قائد دفّة
التغيير وراسم أحلام المجتمعات للنهضة والتقدم لأنّه وصل لمرحلة من التنظير تعالى
فيها عن الحقيقة و واقع المجتمعات الفعلي فتراجع دوره ولم تؤتي دعواه وشعاراته
ثمارها المرجوة.
ويعزو
هذه الحالة من انحسار الفاعلية أو عدم الوصول للنتائج والغايات المرجوة لمجموعة من
الأوهام التي تملأ عقول المثقفين عن أنفسهم على نحوٍ جعلهم يظنون أنهم المنقذون
المنتظرون الذين يقدمون أفكارًا وقراءاتِ يقينية للواقع غير قابلة للنقد أو الرفض
أو التأويل ، بدعوى أنّهم نخبة المجتمع وطليعة الجماهير.
وهذه
الأوهام هي خمسة أوهام كما ذكرها الدكتور علي حرب ( وهم النخبة ، وهم الحرية ، وهم
الهوية ، وهم المطابقة ، وهم الحداثة ) ولا يسعني المجال هنا للتفصيل فيها حيث أني
أذكر إجمال المضمون ، ويمكن الرجوع إلى مقالات الدكتور عبر الشبكة العنكبوتية أو
إلى نفس الكتاب للاطلاع على تفصيلاتها.
وأنا
هنا لم أوافق الكاتب ولم أعارضه في جملة ما ذكره بقدر ما اعتبرتُ هذه التجربة
القرائية إحدى العتبات في سبيل الارتقاء بفهمي لرؤى المفكرين والمثقفين في فهمهم للأوضاع
المجتمعية وقراءتهم لها وطريقة تعاملهم معها على مستوى أطروحاتهم ونتاجاتهم.
ومع ذلك يستحق هذا الكتاب إشادتي
بثراء مضمونه ومنطق تحليله وتميّز منهجيّة طرحه ، حيث أن أكثر ما يهمني عند قراءتي
في مجال الثقافة والفكر هو التقائي بكتبٍ تنير لي مناطق جديدة لم أتطرق إليها لا
بتجربة قرائية أو حياتية سابقة ولا
بالتفكير أو التأمّل ، أو التقائي بكتبِ تقدّم لي منهجية تفكيرٍ مختلفة في تعاملي
مع الأفكار والآخرين ومعطيات الحياة عمومًا.
وقد وجدت كلتيّ ضالتيّ في هذا
الكتاب وخاصة منهجية التفكير التي دعا إليها تحت مفهوم نقد الذات أو الثورة
الفكريّة ، حيث أننا كثيرًا ما نتعامل مع نقد الذات على مستوى نقاط قوتنا وضعفنا
في مهاراتنا وإمكانياتنا فحسب ، فوجدتُ الدكتور علي هنا يؤكد على نقد الذات من
منطلق الثورة الفكرية فيعبّر عنها بكونها ثورة الفكر على ذاته.
ويقول : الإنسان يغيّر أفكاره
فيما هو يصنع العالم ، ويعدّل مقاصده فيما هو يسعى نحو أهدافه ، ويخرج على خططه
فيما هو يعمل على تنفيذها. من هنا لا أفكار موضوعية مطابقة ولا نظريات تطبيقية
جاهزة. ثمة شيء يختلف عن ذاته باستمرار ، باختلاف أنظمة العلاقات ومنظومة التواصل
، أو باختلاف المعالجات الفكريّة والممارسات الميدانية.
قرأتُ المقطع السابق تحديدًا
بأكثر من وجه ، وجه أطللت منه على مقصوده فيما يتمّ معنى قضايا الكتاب وأفكاره و
وجهٌ آخر أطلّ منه على حياتي وتجربتي الشخصية.
فأنا شخصية دائمة الثورة على
أفكارها ولكني أسمّي هذه الحالة بالعادة " فوضى الأفكار " حيث أني بعد
مرور فترات معينة في حياتي ومع تراكم المواقف والتجارب الحياتية واتساع نطاق
علاقاتي أجد أني في حاجة ملحّة لأثور على بعض القناعات وأعيد تشكيل بنيتي الفكرية
مع ثبات مبادئي وقيمي بالطبع ولكن في ذات الحين أحاول استيعاب التغيّر المستمر
للظروف وللشخصيات والعلاقات والمواقف من حولي ، من خلال نقدي لتعاملي مع كلٍ منها
بدءًا فيما أعتقده تجاهها مرورًا بما حدث فعلاً وانتهاءً فيما يجب أن تكون عليه
شكل قناعاتي بعد هذه الثورة تأكيدًا أو تغييرًا أو تعديلاً و تهذيبًا ، والحقيقة
أنّ هذه الفترة تعيث بسلامي مع نفسي فسادًا كثيرًا ، لكني أخرج منها بنضجٍ أكثر و
وعيٍ أعمق وتقبلٍ أكبر لتلك الظروف واختلاف العلاقات وتنوّع الشخصيّات حولي ، مما
يحسّن أدائي في تجاربي وتفاعلي مع علاقاتي استنادًا على ما ألحظه من نتائج فيما
بعد.
وأخيرًا
أقول أني خرجت من تجربتي القرائية لأوهام النخبة وأنا شبه مطمئنة إلى علاقتي
النقدية مع ذاتي وثورة الأفكار التي تجتاحني من فترة إلى أخرى لأعلن فيها حاجتي
إلى تجديد بعض مفاهيمي أو معالجة بعض قناعاتي ومنطلقاتي الفكريّة وكما أقول دائمًا
أنّ كل تجربة مهما اختلف مجالها هي بالضرورة فرصة مواتية للنمو وها هي إحدى تجاربي
القرائية تؤكد لي على ذلك.