أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

عام 2025م في مقصورة المسافرين





 

بسم الله ربِّ البداياتِ المباركاتِ..

عودة إلى المدوّنة والتدوين ونستفتح بعام 2025م في مقصورة المسافرين.

 

في صالات المطار


يُخيّلُ إليَّ أحيانًا أنه بوسعنا معرفةُ نوع السفر الذي يقصده الآخرون عن طريق مراقبة خطواتهم، وطرائق مشيهم، فالخطوات الزاحفة والمشيُ المتثاقل حالُ المسافرين الذين يُنازعون أنفسهم تجاه وجهاتهم ويُصارعون فيها فكرة السفر من أساسها، غير أنّ الدافع قوي والغاية مُلحّة، فربما كانوا يسافرون لغرض العلاج أو العمل أو أغراضٍ أخرى متصلة بأسباب عيشهم وضرورات الحياة.

أمّا الخطوات المُسرعة أو المُهرولة، التي يتقافزُ فيها الكبار والصغار -كلٌّ على طريقته- فهي لمسافرين سُيّاح يفرون من حرارة الصّيف إلى وجهات باردة أو أقلَّ حرارة في مثل هذه الفترة من السنة، يُمكن أن تكون خطوات طلبة مقبلين على تجارب دراسية جديدة يُعلّقون عليها آمالهم وطموحاتهم أو عودة إلى أوطانٍ طال الغياب عنها وعن الأحبة فيها، أو ربما كانت خطوات قلوبٍ توّاقة وأرواحٍ مشتاقة إلى زيارة البيت الحرام. كلها خطواتٌ لها وقع الفرح والمرح.

خلالَ السنوات الأخيرة تقلّبت أحوالي بين المجموعتين، غير أنّي في هذا العام تحديدًا عبر فترة قصيرة تسنّى لي المرور بصالات المطار حوالي خمس مرّات، كنتُ فيها خفيفة الخُطى، كثيرة التقافز وتمرنتُ أكثر على مفارقة الأمكنة، أنا التي كنتُ أحمل وجع الفراق بين أمتعتي كرفيق لصيقٍ مُرهق، تخففتُ منه الآن، وصار الحماس يشدّني إلى الأمكنة الجديدة.

بدأتُ هذا العام بالاستفادة من فرصة إتمام دورة تدريبية أتيحت لي في (كوالالمبور-ماليزيا) وقد أتممتها خلال ثلاثة أشهر ولله الحمد.

 


 


في كوالالمبور


كان لقائي الأول بهذه المدينة، ولقائي الأول عامة بالدُّول الآسيوية – شديدة الحارة- في ساعات النهار، وإذ أشير إلى ساعات النهار، لأني قضيتُ معظم رحلتي وأنا أتجوّل خلالها وأرتاد شوارع المدينة بل والمناطق الأخرى في كوالالمبور، حيثُ تكشف المدينة عن وجهها سافرًا وفاتنًا، مما مكنني من التعرّف على شوارعها وأزقتها وطبيعتها وأناسها، بوضوحٍ وهدوء تامّين.

تمتزجُ الأعراق الآسيوية في وجوه سكّان ماليزيا، لا سيما المالايو-وهم السكّان الأصليون- والصينين والهنود الذين حملتهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنزوح إلى ماليزيا، وهذا المزيج بطبيعة الحال أسفر عن تنوّعٍ في الأطعمة والوجهات السياحية، وطبيعة الأنشطة المتاحة وفي أماكن العبادة وطبيعة الخدمات، حتى عدد الإجازات ونوعها، فبالرغم من أنّ ماليزيا دولة إسلامية -حسب دستورها- إلاّ أنّ الإجازات الرسمية تشمل إجازات الطوائف الأخرى، مثل إجازة رأس السنة الصينية، وإجازات الاحتفالات الدينية للهنود.

رائعة كوالالمبور نهارًا، تُظهِر – مزهوة – مفاتنها بدءًا من طبيعتها التي تتمايز ألوانها وتتضح في لوحة بديعة تأملتها في الحدائق والجبال بين الشلالات وأمام البُحيرات والأنهار، مرورًا بسكّانها الهادئين رغم كثرتهم، البسطاء رغم مظاهر التكّلف التي تُحيط بمدينة مركزية وتجارية، الذّواقين للأطعمة رغم نحُول أجسادهم.

ثمّ لا يفوتني الحديث عن عمارة المساجد فيها، حيث تسنت لي زيارة ثلاثة مساجد أبهرتني عمارتها في دقة التفاصيل وجمالية المكان ولكلٍ منها ميزات لا يسعني المقام لذكرها لكني سأرفق صورًا لها (المسجد الوطني، مسجد بوترا، مسجد توانكو ميزان زين العابدين)، ولن أتجاوز شعوري بالفخر الشديد حين علمت أن مسجد بوترا أو المسجد الأحمر – كما يُعرف- هو من بناء شركة بن لادن السعودية.












في الليل تبهتُ هوية المدينة، حين يزدحم السُيّاح في كل مكان لا سيما عند النافورة الراقصة في مركزها (KLCC) حيث يفدُ الناس إليها للاستمتاع بعروضها من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، . يُغريهم وجهها اللامع وإضاءات الأبراج الشاهقة حولهم. فعلًا منظر جميل.

لكن لو خُيّرتُ لاخترت المدينة نهارًا ليس لأني كنتُ حينها قادرة على إبصار جمالياتها إلى هذا الحد فقط، ولكنّها أكرمتني نهارًا وأعادت إليّ صبا الطفلة التي كانت تملك دراجة تلعب بها في الحارة حول المنزل في مساحة محدودة -لأسباب أمنية بطبيعة الحال- ساعات طويلة من ركوب الدراجة حظيتُ بها في كوالالمبور انتصارًا لتلك الطفلة ومباهاة بما تستطيعه الفتاة التي كبرت.



يختزلنا السفر في "السؤال عن الوطن"

Where are you from?"

طوال الأشهر الثلاثة كان التعريف عن نفسي يبدأ بـ: السعودية، متجاوزة ذكر اسمي، الذي استخدمته لمرات قليلة.

في السفر يعرفنا الآخرون أو -يسهل عليهم التعرّف علينا- حين يقفزون مباشرة للسؤال عن الجنسية أو الوطن، حيث يختصر هذا السؤال الكثير من التفاصيل، لأن الإجابة ستجرُّ وراءها حمولة ثقافية واجتماعية كاملة، يُمكن أن توضح مستوانا الاقتصادي وحدودنا في التعامل مع الآخرين، حتى درجة الاحترام التي نُقابَل بها، وأحيانًا مستوى كرم الضيافة الذي نستحقه، وهُنا مثلًا أذكر حين دخلت مطعمًا عربيًا في سنغافورة، فسألني الموظف "كالعادة"

"Where are you from?"

فأجبت: From Saudi Arabia

وبعدها اكتملت أهليتي للحصول على ضيافة مجانية "كوب شاي وحلوى عربية".


عن البحر




إذا تجاوزتُ الحديث عن درجات الحرارة المرتفعة فيها -وهي لا تختلف عن الحرارة لدينا كثيرًا- لكن حالة السفر تُضفي على المشيِ شرعية – غير مفهومة بنظري- في ظلّ جميع الظروف وبتقبل مختلف الأحوال والمواسم وقد كان جزءًا صعبًا من الرحلة بالنسبة لي، ثمّ إذا تجاوزتُ الحديث عن المطر المتكرر الذي يجعل من نسيان المظلة "كارثة لحظية" فبطبيعة الحال هناك يُمكن أن أقصد المتجر القريب من منزلي مسافة خمس دقائق في جو صحو وصافٍ، فأنتهي من تبضعي لأخرج من المتجر على حالة مطر كثيف يصعب المشي تحته دون مظلة.

الآن لي أن أتحدث عن البحر قليلًا ..

أعرفُ البحر البسيط جيّدًا، أزعم أنه يعرفني حين يمنحني شعورًا آلفهُ منه وأحبه، وإني إذ أقول البسيط، لا أقصده في الوزن والشّعر، وإنما في سعة الأفق.

يَأتِي مُمْتدًا، لا تَحدُّه سِوَى نظرتي العَاجِزة عن بُلوغِ آخره، هادئًا لا تلفتُ انتباهه سوى خطوات المارّين أو المتأملين. وهذا ما وجدته في إحدى شواطئ جزيرة بينانج.

في حضرة البحر أستحضر كلَّ مرة أبياتًا للشاعر عبداللطيف بن يوسف:

البحر ..

يسكنه الذين تعوّدوا عيشًا على أفقٍ تؤطّره السَّعة.

ثم تأخذني خيالاتي لأمنية آمل تحقيقها فعلًا، في فترة متقدمة من العمر _ إن أمدّني الله بالصحة والعافية- أن أسكن في منطقة قريبة من البحر أو مطلة عليه، فأنا ممن ينشدون السّعة ويتطلعون إليها.

في سنغافورة كانت زيارتي غير المخططة للبحر الباذخ أو المُترف – إن صحّ وصفي- عند تلك الشواطئ التي يكثر زوّارها ومرتادوها ممن ينشدون مظاهر التكلّف والاستعراض وبرغم جمال منظر البحر، إلا أني لم أستطع الجلوس فيه لأكثر من نصف ساعة، سارعتُ بعدها للمضيّ والعودة أدراجي.



الكاتب المصري عزت قمحاوي في كتابه (غرفة المسافرين) يوجز تأمّلاتي هذه في عبارة لطيفة، ويقول: السّفر تحديقة، نظرة إلى الجميل تكون خطرة أحيانًا.

 

 

 


الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

مُيَسِّرة في صوت الشباب


 



" نحنُ نبحثُ عن صوت ..

أكثر هدوءًا، وأكثر قوة

أكثر عمقًا، وأكثر دقة..ودقة

أكثر فنًا ..

صوتٌ أكثر وصولًا وذكاءً

نحنُ نبحثُ عن .. صوتِ الشباب"


كانت هذه مقدّمة أحد إعلانات البرنامج التي أعجبتني نصًا وصورة.


برنامج صوت الشباب هو أحد برامج مؤسسة مسك الخيرية (مؤسسة الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله) وإسهام من الإسهامات المعرفية التي تقدمها عناية بالاستثمار في الشباب السعودي فكرًا وخبرةً وقدرة.


تتمثل أحد الأهداف الجوهرية لهذا البرنامج في دفع الشباب نحو التعبير عن قضاياهم وقضايا مجتمعاتهم المحليّة بشكلٍ واعٍ وطرحٍ نوعيٍ فاعل.


وقد انطلق البرنامج في دورته الأولى من ثلاث مناطق هي: منطقة الجوف، ومنطقة جازان، والمنطقة الشرقية متمثلة في مدينة الأحساء مع إتاحة فرصة المشاركة للشباب في جميع مناطق المملكة العربية السعودية.


وعلى مدار أربع مراحل: تبدأ بورش تعليمية حول مهارات التواصل والإقناع ثم مرحلة الحوار كتدريب عملي للشباب لتوظيف مهارات الحوار وأنماط التفكير المختلفة لديهم -وهذه المرحلة التي سُعدت باختياري كمُيسرة فيها- تليها مرحلة تركز على مهارات التفكير النقدي لدى المشاركين وانتهاءً بمرحلة الإعداد للقاء صانعي القرار في كل منطقة من المناطق الثلاث.

 

مُيَسَّرة!

عندما أتمعّن في الكلمة، أدرك أني قبضتُ عليها أثناء ارتقاء مكتبتي، رفًا تلوَ رف، كتابًا بعد كتاب، إنها فضيلة الإنصات إلى الأفكار والاشتباك الهادئ معها، ومغبة التورّط في عمليّتين لذيذتين: القراءة والكتابة معًا. هكذا بدأ الأمر معي، ولا زال حتى الآن.

دوري كمُيسرة في البرنامج كان يقتضي ممارسة هذه المهارة التي أدّعي إتقانها " الإنصات " في مقابل السيطرة على لهف الحديث أو الإمساك بزمام الأمور؛ لأنّ جريانها على سجيتها بعد قذفي للحصاة (تقنيات الحوار ومثيرات الأفكار)  يضمن للمشاركين جلسة حوارية إثرائية ماتعة يشكلونها كيفما أرادوا.

أيضًا كان عليّ أنّ أرسي قواعدًا آمنة، تكفل لكل مشاركٍ حقَّ التعبير عن نفسه وأفكاره وما يودُّ طرحه، حق تقدير اختلاف سياقاته ومنطلقاته عن غيره.

وكم كان الأمرُ ممتعًا؛ فهأنا من جديد وسط طوفانٍ عارمٍ من التصورات والرؤى المتفاوتة والمختلفة، بعضها محطٌ للنظر والإمعان والآخر محطٌ للإعجاب والثناء ومع ذلك كنتُ أحاول الحفاظ على الحياد؛ لأني في نهاية المطاف مُيسِّرة! بكل بساطة، لقد كنتُ أفعلُ ما أجيده وأحبّه، وهذا يعني لي الكثير جدًا.


إنّ هذا البرنامج المميز إلى جانب غيره من البرامج الشبابية اليوم، باتت تخلق حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا رائعًا وتسهم في تنمية القدرات البشرية من خلال تمكين الشباب وتجويد الأدوات التي يمتلكونها في سبيل مساهمتهم لتلمس احتياجات مجتمعهم في مختلف القطاعات وإشراكهم في عملية التخطيط وخلق الحلول التنموية المبتكرة.


 إننا اليوم بقيادة الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – نسعى لتوفير كافة الظروف والإمكانات التي تمهّد الطريق أمام جيل صاعد يكون جزءًا من الحل لا المشكلة. ويوظّف قدراته وطاقاته لتحقيق حياة كريمة ذات جودة له، فهو جيلٌ واثقٌ قادر- بعد تمكينه- على تكوين قنوات تواصل فعّالة بينه وبين الآخرين تدعم علاقاته الاجتماعية، وتعزز قدراته في التعبير عن نفسه وتطلعاته، وتحديد خياراته وتمرير مرئياته واقتناص فرصه.


ولا أجدُ ذلك إلا مصداقًا لما ترمي إليه رؤيتنا الطموحة 2030 في جعلنا مجتمعًا حيويًا جذوره راسخة وبيئته عامرة وبنيانه متين. مجتمعًا يراهن رهانًًا رابحًا على الإنسان أولًا ودائمًا.

 

 


الاثنين، 26 أبريل 2021

سنة ثانية ماجستير .. في الرياض

 



عتبة الدخول/

إن المخاوف في رأسي أكبر مما تبدو عليه في الواقع.



 

أخيرًا..أخيرًا، انتهت هذه السنة الدراسية الطويلة، طويلة جدًا بأحداثها وأعبائها.

الفصل الأول منها تجاذبتني فيه هموم الدراسة والمعدّل والتكاليف البحثية التي كانت أشق وأكثر عددًا من السنة الماضية، لكني حين أنظر إليه الآن  على بعد مسافة خمسة أشهر تقريبًا ومعدّل أرتضيه ولله الحمد، أجد أني صقلت مهاراتي البحثية فيه أكثر من السنة المنهجية الأولى، وأني وللأمانة الأخلاقية قبل العلمية "استمتعت" في كثير من مقرراته ونقاشاته، لولا كورونا-أباده الله وخلّصنا منه-الذي باعد بيني وبين زميلاتي وأساتذتي وفسحة التجارب والمغامرات الجامعية التي تبدّت في خيالاتي منذ صدر قبولي للدراسة في جامعة الملك سعود! طمعًا في تأثيث ذاكرتي بالغرائب والعجائب في الجامعة الجديدة! لكني الآن لا أحفظ منها غير فصل ونصف وملامح شاشة حاسوب أرّقتني وأرهقتني لساعات طويلة.

 





أما الفصل الثاني الذي تآكّلني فيه القلق من فشلي في كتابة خطتي البحثية أنا التي ما كتبتُ رسالة علمية قبل هذا الوقت قط أو الإنجاز الركيك غير المتقن، وحالة الضياع الأولى التي أعياني فيها البحث عن طرف الخيط الذي ما إن أمسكت به، انفرط -بفضل الله- على امتداد أسبوعين من البحث والاطلاع والكتابة والجهد المكثف في كلِّ ذلك، حتى انتهيت من خطتي البحثية فيما يقارب 30 صفحة ورقية.

حدث ذلك في الشهر الأول (6) من بداية الدراسة ثمّ طالت الإجراءات ولم يصدر الاعتماد النهائي لها من عمادة الدراسات العليا إلا في هذا اليوم المبارك الذي دفعني ببركته لكتابة هذه التدوينة. مرّ حدً الانتظار على صبري القليل مجرّحًا إياه حتى نفد، فصبرت بعدها من قلة الحيلة. والحمدلله أنها اعتمدت.

هذه قصة المتن، أمّا قصة الهامش (حياتي في الرياض)، فإني حين أتأملها الآن

أنظر إليها نظرة عُجبٍ وتعجب!

لأني في مثل هذا الوقت من السنة الماضية حين كتبت تدوينة(سنة أولى ماجستير .. في الرياض)

كان أول ما فعلته عند وصولي إلى منزلنا في مكة إلقائي بحقيبة السفر في أبعد نقطة في المنزل لا تصلها عيناي أو قدماي فوجودها يهدد أماني وراحة بالي.

اليوم حقيبة السفر في خزانة غرفتي، لا يبعدني عنها إلا المسافة الفاصلة بين فتح الباب وإغلاقه، هي نفسها المسافة بيني وبيني! بين نسختي القديمة التي ذهبت للرياض متعثرة بكل ما تركته خلفها من أهل وأصحاب وأماكن تعرفها وتألفها، ونسختي الجديدة التي بدأت بتأثيث حياة مستقرة في الرياض التي حفظت طرقها إلى حدٍ ما (فهي مجموعة مدن في مدينة) وصارت لي فيها أماكني المفضلة وقت راحتي أو انزعاجي أو رغبتي في تشتيت ذهني أو حتى الترويح عن نفسي. والأهم المكتبات التي أفضّل ارتيادها دون غيرها.






وهذا اعتراف صريح ومباشر أمام الأصدقاء الذين سيقرؤون هذه التدوينة أصحح فيه انطباعهم عن مشاعري تجاه الرياض التي كرهتها ابتداء، اليوم أنا أحب الرياض لأنها منحتني فرصة للتمدد والنمو ومواجهة الكثير من مخاوفي، ولأنها غدت مرآة أتلمّس فيها حقيقتي حين تجرّدت من محيطي والتصوّرات التي حفظتها عن نفسي بأعين الناس. في الرياض كنتُ عارية تمامًا من كل ذلك. في الرياض واجهتُ نفسي وقدّرتها.

ربما لو كانت مدينة أخرى غير الرياض، لوصلت إلى نفس النتيجة لأن العبرة في تجربة الابتعاد والاغتراب وكل ما تُسفر عنها كالتجرّد من حماية العائلة وسقف المنزل وحميمية وجود الأصدقاء.

في الانتقالات السكنية العديدة التي فرضتها عليّ الظروف، وفي قوائم المشتريات المنزلية التي بتُّ أعدها بذكاء، والميزانية الشهرية لمشاويري مع أوبر التي تصدرت قائمة مصروفاتي، فمتوسط المشاوير المعقولة في الرياض تأخذ من 20 دقيقة إلى نصف ساعة تقدّر بـ 80 ريال للمشوار الواحد للذهاب والعودة. والعزم معقود بالتأكيد لإصدار رخصتي في القيادة.

 ومع ذلك فإن الرياض تحديدًا تشبهني في مزاجي العمليّ المهووس بالإنجاز وعلامات الانتهاء من المهام، وزحمة أفكاري وتأمّلاتي الدائمة، في تقلّبي المستمر بين ذواتي التي يناقض بعضها بعضًا أحيانًا، كقيظ نهار الرياض المزعج الذي ينقلب في نهاية اليوم إلى جوٍ عليل وبرودة لطيفة، لنصبح على يوم آخر ضبابه من غبار وإلى غبار يتوسطه هطول مطر عذب، للرياض أيضًا وجهٌ قسماته هادئة وساكنة أحيانًا يشبه مزاجي الرائق وهو يدفعني إلى الخروج والمشي في طريق طويل لا نهاية له، أقلّب فيه طرفي وفكري، الوصول آخر رغباتي. مفتونُة أنا في المشي والتفكير.

 



عتبة الخروج/

أمتنَّ لوالدي كثيرًا لأنه يدفعني لمواجهة الحياة واستثمار فرصها متذرعة بشجاعة أستمدها منه.

الاثنين، 11 يناير 2021

على قارعات طرق العمر




"تتراكمُ الأعوامُ فوق رؤوسنا

حتى تئنُّ من الرُّكام رِقاب"

 

تبدّى لي وجه امرأة متعبة تجلس على قارعة الطريق، تحملُ عمرًا كاملًا فوق رأسها، عمرًا مضى عليها وهي تقرضُ أصابع القلق وتوصد أبواب الخيباتِ بابًا تلوَ آخر. ربما كلُّ النساء يفعلن ذلك أينما كنّ. روضة، شاهدة عيان وصاحبة تجربة "وجعي .. على وجعِ النساء"

من أين جاءت تلك المرأة؟ لا أدري.

وما الفرق بين جيئتها من مشارق الأرض أو مغاربها. اختلاف الجغرافيا هو اختلاف لملامح المواجع والمآتم، لا انعتاق منها.

 

هكذا قرأت هذا البيت، هكذا بالعموم أقرأ الشعر وأنا أشير إلى الحياة وأحدد مواضع ما عاينته منها بالتجربة أو بالقراءة أو بالشعر، تعلّمت أن أفهم وأن أشعر وأن أتحسس اللغة في كل ذلك.

 

نعم تتراكمُ الأعوامُ فوق رؤوسنا، وهذا أصعب ما في الأمر. أن يبدأ الألم من الرأس مرورًا بالرقبة ثمّ إلى سائر الجسم وبقية الأعضاء. يتداعى الجسد لمواجعه، فهل يكون ذلك لأجلِ الآخرين أيضًا!

حين أتأمل قليلًا أجدُ أن العمر الذي أحمله فوق رأسي، ليس ماضٍ بل قادم. أنا لا أحمل العمرَ تحديدًا وإنما أحمل مخاوفه، هواجسه، وقلقه. أحمل محاولات الرتقِ فيما سيحدث لا ما حدث.

 

جاسم الصحيّح في قصيدته التي أسميتها "نبوءة عمرٍ كامل" ويسميها "خيمة من الهواجيس على رابية الأربعين" يقول:

العُمْرُ كلُّ العُمْرِ موسمُ هجرةٍ ..
وأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّدِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ !
كلّما قرأتها أصابني شيءٌ من الذعر، كيف يكون المرء مهاجرًا طوال عمره، يتنقل بين المنافي دون أن يركن أو يستكين، تلفظه بعض البلادِ داخل نفسه وبلادٌ أخرى خارجها، لكنه أبدًا لا يتفق معها، لا يتفق مع الطريق، لأن كل العمر موسم هجرة!
أمعن النظر في النافذة أمامي، نافذة مقهىً لا يشبه المدينة هذه، لا يشبه الناس فيها، لكنه يشبهني ويشبه هذه الجلسة المنكفئة على جهاز الحاسوب. أنا والمقهى نتوءان في وجهِ المكان. وهذا مما يزيد ذعري.

"خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصار
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟"


بم يشعر أولئك الذين يقفون على أطلال حدائق الغروب في أعمارهم؟

ممَّ يسأم المسافر إن كانت خيارات العمر بين حدِّي الارتحال والإقامة؟

 

فإن كان ارتحالًا، فالوعثاء حاضرة بقدر حضور التجارب، وفرص النمو، والتغيير وتحطيم القيود والقوالب التي نختارها أو تختارنا، لكننا على الحالين حين نقرر الارتحال، نبحث وكلُّ بحثِ آيلٌ إلى معرفة.

وإن كانَت إقامة، فإن تعب البقاء أشقى وأعتى، لأنَ الوقت يمضي على كلَّ حال ومعه الأشياء والأشخاص والحياة. فماذا يبقى لنا ومعنا إذا أقمنا؟!

أشرد بعضًا من الوقت، فألتقط الفكرة، ربما هو خوفٌ لا سأم، خوفٌ من الوقوف على "طلل حديقة غروب العمر" في مواجهة النفس وحساب خساراتها ومكاسبها، ماذا لو كانت الخسارة فادحة؟ ماذا لو كانت المكاسب وهمًا؟ ماذا لو كانت المحصلة القليلُ من العمر الذي يستحق أن يشار إليه ويُحتفى به؟

عني، أخافُ الجلوس مكان المرأة التي صوّرتها ابتداءً فأرثي:

" فلاحُ هذي الأرض عمري حنطتي .. وبذرتُ أكثرهُ حصدتُ أقلّه"

 

والقليلُ من العمر مخزٍ..ضيّق وصفيق. قد يتسرّب منه كل ما أحب وكل من أحب.

 كلَّ ما انكببتُ ألملمه من على قارعات العمر والحياة، وأعدُّه، عدة وعتادًا.

فالقليل من العمر ليس مثل البسيط منه. البسيط من العمر مباركٌ وطيبٌ.

 

"البسيط من العمر أن تنتقي وقت نومك

أن تنتقي بدء يومك

أن تنتقي لغة للتأمل والأمنيات

وأن تترك الكون والكائنات

وأن تصطفي غفوة للقدر

البسيط من العمر

أن تجعل العمر شلال ماء يدندن لا يأبه المنحدر"

 

ثمّ أعتقد أننا وصلنا إلى مرحلة حريٌ بنا فيها أن ندخر للعمر، الأجود من الأفكار والتجارب والعلاقات، فهذا ما سنعوّل عليه مستقبلًا، إذا ما توقفنا عن السعي أو تباطأت خطواتنا، في عمرٍ متقدم لا يسعنا معه البحث أو الانتقاء وإنما الاتكاء بطمأنينة. هذا مفهوم يوميٌ بسيط لجودة الحياة.

أتذكر هذا الجزء الذي ختمتُ به حواري مع صديقتي قبل أسابيع قريبة، صادف بعدها أني استمعت إلى إحدى الحلقات الصوتية "لبودكاست أبجورة" وهي تصف المراحل التي يمرّ الإنسان بها في تعامله مع عمره:

"...حين عرفت حدود قدراتك وأدركت أن وقتك قصير وناضب، مهما خُيَّل لك عكس ذلك، ستبتدأ تدريجيًا بالدخول في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة تأسيسية كبيرة في حياة الناس، ستتخلى عن الأصدقاء الذين يستنزفونك، ستقلص النشاطات التي تهدر وقتك، ستعيد النظر في بعض أفكارك وأمنياتك، وفي المقابل ستضاعف جهدك فيما أنت جيّد فيه، وما هو أفضل لك"

 تنتهي الحلقة بابتسامة ساخرة مني: ياه! متى قطعتِ هذه الأشواط من العمر يا أصالة؟! أقلّب الطرف والفكر فأجدُني جادة أكثر مما ينبغي لشابة في منتصف العشرين من عمرها.

 

يا سيدتي .. يا سيّدي: في عموم الأمر (يكفينا من هذا العمر شرف السعي فيه لحياة واحدة تشبهنا على أقلِّ تقدير).

 


الأحد، 30 أغسطس 2020

التدوينة الأخيرة في أقرأ 2020


 

لا شيء بعد أقرأ يعود كما كان.

 في البداية يعاني الواحدُ منَّا أعراضًا انسحابية، تثقل عليه حمولة الدقائق والساعات، تشتدُّ وطأتها على ظهره وفي صدره، ثمُّ يعود إلى أهله وبيته وهو يشعر بالفراغ، لا يعرفُ من أين يجيء الهواء؟ لكنّه يمرٌّ ياردًا في داخله و وقته وأمكنته.

 يستوحش الأمكنة ابتداءً، لأنها خالية من آل أقرأ (الرّفاق والروّاد والمصورين والمشرفين...)، ما زاروا بيته يومًا لكنّه من فرط ما تعلّق بهم على مدارِ أسبوعين أو يزيد، لأكثر من 12 ساعةً يوميّة، اعتاد فيها حضورهم، أصواتهم، روائحهم و وجوههم ظنّ أنه يعرفهم قبل ذلك وسيعرفهم دائمًا.

ثمَّ يستوحش الوقت بعدهم لأنه معهم كان ممتلأ جدًا باللقاءاتِ والنقاشات والمحاضرات والأمسيات العذبة وبنفسِ القدر بالمهام والمسؤوليات التي لابدّ أن يُنجزها حتى أنّ كل ذلك يزاحم وقت نومه وراحته، ولكنه كان فرحًا، مسرورًا، لأنه يعرف أنّ هذا الوقت الطويل، المرهق أحيانًا، مؤقتٌ وعابر.

سامي يقول: ملتقى أقرأ جنة القراء، ثمّ يباغتني بسؤالٍ مُنتصر، صفي التجربة بكلمة واحدة يا أصالة؟

إن كنتَ يا سامي استأثرتَ بوصف الجنة للقراء، وتركتني في لجة بحر اللغة أتخبط باحثة عن كلمة واحدة فما عساها تكون؟

2020 .. هذه المرة جئتُ إلى أقرأ رائدةً لا قارئة، وهذا يعني أن أنظر إلى التجربة من منطقة مرتفعة أكثر، متخففة من المخاوف والارتباكات، والأجمل أن أساهم في تعمير هذه الجنّة للقراء وهذا ما حاولتُ فعلهُ على امتداد ثلاثة أسابيع، بدأت بأسبوع لقراء المرحلتين (الإبتدائية والمتوسطة) ثمّ قراء المرحلتين(الثانوية والجامعية).

فعلتُ كما أفعل دائمًا أمام مرايا التجاربِ، أبحثُ فيها عمّا لا أعرفه عن نفسي أو ما عرفته بشكلٍ خاطئ، أو ما ظننتُ واهمة أني أعرفه كاملًا، فكاشفتني التجربة.

وكالعادة أيضًا وجدتُ الكثير من كلّ ذلك. وأمتنُّ عليه.

أمتنُ للقارئات اللاتي أشرفتُ عليهنَّ (خديجة، مارية، آية، فاطمة، ريما، إيمان، جنان، رويدا، زينب، سيرين، شهد).

وأمتنّ لكل القراء الذين قابلتهم وعرفتهم,

أمتنٌ للرفاق الذين شاركتهم تجربة الإشراف والرّيادة الأساتذة الكرام:

أ/سامي البطاطي.

د/هند الحازمي.

أ/جمانة السيّهاتي.

أ/فواز العبّاد.

د/فيصل الشهراني,

أ/إبراهيم آل سنان.

أ.رشاد حسن.

أ/أروى الفهد.

أ/ ربا عبدالله.

أ/شيماء الكثيري,

ثمُّ أجيء أنا، أصغرهمُ سنًا وأقلهم نضجًا، وأغضهم خبرة، وهذا والله مما كنتُ حظية به، لأنهم زادوا لي في رصيد العمر والنضج والخبرة ما يمنح للقادم من أيامي ثراءً وجمالًا وعمقًا،  وأحملهُ وسامًا على صدري أردٌ فيه المعروف والشكر لأهله على الدوام. فتقديرًا و ودًا وفيرًا لهم.

خلود والوليد وأشخاصٌ كثيرون في أقرأ، لم أتحدث عنهم بعد ولعل المقام لا يسعني هنا ولا يسع حمولة المشاعر التي أكنها لهم، لكنهم يعرفون جيّدًا أنهم ما مروا عابرين وإنما مرّوا عليّ كرامًا، بررة.

انتهى الأمسُ(اليوم الأخير في ملتقى أقرأ)  باحتفالٍ بسيطٍ يجمعنا نحن آل أقرأ، حين جاء دوري في استلام الدّرع، قال الأستاذ طارق الخواجي مازحًا: الآن جاء دور المُلامة على حدوث الأمور التي لا تسير على ما يُرام.

فأجاب الجميع بصوت واحد: أصالة.

ثمّ ضحكنا، لأن هذا التعليق جاء عطفًا على موقفٍ سابق لطيف في مقام المُزاح أيضًا.

وعندما ذهبت لاستلام الدرع والتقاط الصورة معه، قلتُ بصوت متذمرٍ متندر: أهذه السمعة الطيبة التي تركتها عندكم؟!

فأجاب الأستاذ طارق بنبلٍ اعتدته منه: أنتِ نورٌ على نور يا أصالة.

ومنذ الأمس إلى اليوم وأنا أبتسم مبتهجة كلما ذكرتُ هذا الموقف، لأنه غالٍ عليّ جدًا.

ثم أسأل الله أن يجعلني أهلًا لهذا الظنِّ الطيب، وأن أكون قد أديت مسؤوليات تواجدي هنا على أكمل وجه.

أخيرًا أريدُ أن أقول شيئًا عن المنطقة الشرقية وأهلها:

هنا عندما تبدأ مُحادثتك/ لقاءك مع أحدهم رجلًا كان أو امرأة، لا تنتهي منها إلا بحيرة عذبة وسؤالٍ باسم،  هل السعة في قلبكِ أم على الأرض أو في وجوه الناس؟

يُلمّح الشاعر السعودي عبداللطيف بن يوسف للأمر قائًلا:

" البحر ..

يسكنهُ الذين تعوّدوا عيشًا على أفقٍ تؤطّرهُ السَّعة."

ثمٌّ لا يسعك بعدها إلا أن تفهم هذه العلاقة الفاتنة بين البحر وأهل الشرقية، يمدُّ كل منهما الآخر بشيء مما فيه، تقف على أعتاب الأول مأخوذًا بما تراه وما لاتراه ولكن تُحِسه وتقف قبالة الآخر مٌندهشًا من رحابته وإقباله عليك وكرمه.

نعم هذه تجربة أطرافها مُتراميّة، من أيِّ طرفٍ أمسكتُ به فيها، قلت: يا الله .. ما أسعدني وما أكرمك.

 


الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

يوميات رائدة في أقرأ (3)


 


جاءنا اليوم الأستاذ رشاد حسن ليسأل سؤالًا واحدًا فقط ( لماذا نقرأ الأدب ؟)

سؤالٌ جميل لا أتعب من ترديده على نفسي، في كل مرحلة من مراحل تجربتي القرائية، وفي كل لقاء يضعني في مكاشفة فجة مع تجربة الإنسان، الإنسان الذي يعتريه الاعتوار، أو الذي يتعثّر بنفسه وغيره.

كعزيز في تلك العتمة الباهرة، كوالديّ مشاري في خرائط التيه، وكعازل في أن ترحل، ومريد البرغوثي في رأيت رام الله، وحسن في عداء الطائرة الورقية .

لذا أفهم المشاركة ليان حين ردت السؤال بآخر: لماذا لا نقرأ الأدب؟

سؤالٌ ذكي يا ليان، سؤالٌ يشبه نزعك أوراق الزهرة بحثًا عن ميسمها، يشبه حفرك تحت شجرة بحثًا عن جذورها، يشبه ارتدادك إلى الداخل بحثًا عن الحكاية.

حتمًا ستجد الميسم والجذر والحكاية.

نحن لا نكون دون قراءة الأدب، الأدب هو الحكاية.

في الرواية، في الشعر، هو مادة أولية لكل النصوص، وكل التجارب. لا شيء ممكن دون الحكاية، لا شيء يحدث خارج سياق الحكاية. إذن لا شيء بدهيٌ أكثر من قراءة الأدب.

نفهمُ الأمر بوضوحٍ أكثر حين نكون حاضرين في مجلس المشاركة فاطمة وهي تقدّم مراجعتها عن كتاب (اليأس مقبرة الإنسان) فتتوالى الأسئلة بعدها: هل تكفي القراءة لتغييرنا؟ هل يكفي وجود المعلومة لفعل ذلك؟ هل للخطب والمواعظ ذلك الوقع؟ أم أنها الحكمة؟ على أيَّ الحبال تعوّل في نجاتك من مقبرة المحن؟

 

يا نائيًا عني بمترٍ واحد

الآن وسّعت المسافة بيننا


استشهد الشاعر عبدالرحمن العريج في محاضرته عن الشعر بهذا البيت، الذي أعرفه ويعرفني من فرط ترديدي له. لكنّها المرة الأولى التي أعرف مناسبته فيها.

 إنه بيتٌ في رثاء والد أحمد بخيت الشاعر الذي أحب شعره جدًا.

أرجع إلى القصيدة، أتلمّس أبياتها كما هي عادتي في قراءة القصائد التي أحب، أتذوق كلماتها فأجدُ أنّ مرارتها الآن غدت لاذعة. أتحسس رؤوس الوجع فيها. تبدو مُدببة أكثر.

نعم. هذا ما يحدث عند قراءة الشعر.

يُمكن أن تقرأ القصيدة كاملة أو تستلّ أبياتًا تخرجها من سياقاتها وتستشهد بها حيثما شئت، دون أن تعرف مناسبتها أو تكلف نفسك عبء البحث عن ذلك. جزءٌ من الذائقة يستلذُّ بالتأويل.

لكن يحدثُ شيءٌ مختلف عندما تعرف المناسبة، يتعمّق حضور القصيدة في وجدانك، تجد مستقرها ومقامها في صفحات تجاربك وأيامك، بيتٌ على بيت فتتكون الحكاية.

زَرنوق

سَنورة

كحِين

مِسحَاة

ادّيني

في نهاية اليوم وجدتُني وسط حلقة جميلة مع بناتي والرائدة جُمانة، كلمة من القطيف، ثانية من سيهات وأخرى من الجنوب، والقول الفصل بالتأكيد من مكة=")

كان مجلسًا متأنقًا بضحكاتنا واستمتاعنا بالاختلافات التي وجدناها بين اللهجات، الكلمات والمدلولات.

أستذكر حلقة بودكاست فنجان للدكتور بندر الغميّز الذي أقرّ فيها بكون اللهجات جزءًا من العربية نفسها يُعتدُّ به ويُعوّل عليه.

ياه .. تشتدُّ متانة عصا اللغة التي أتوكأ عليها.

أشعرُ بالرِّضا.