أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الجمعة، 26 يناير 2018

رواية ثلاثية غرناطة


نتيجة بحث الصور عن ثلاثية غرناطة




بعضُ قصصِ التاريخ لا تُكتب احتفاء بما حققه المنتصرون ولا بكاءً وعويلاً على ما خلّفه المهزومون ، بعضُها تُكتب ليَنبتّ عقد الحكاية من المنتصف ، من اللحظة التي تلتقي فيها قدمُ الفلاحِ بالأرض التي لا يملك غير عمره حنطة لها ، فيبذرُ أكثره وإن حصد أقلّه.

وهذا ما أرادته رضوى لثلاثية غرناطة ( غرناطة ، مريمة ، الرحيل ).

لم تسلّم رضوى مآلاتِ الحكاية لأرض حربٍ ولا هزيمةِ معركة ، ولكنها وضعتها بين يديّ أبي جعفر الورّاق، وبدأتها من بيته وعلى تخوم وجعه حين أودت به فاجعة محارق الكتب التي افتعلها الأسبان ، فكانت جذوة النار التي أحرقت الكتب هي ذاتها التي أحرق الأسبان بها البشر مرة وأرواحهم مرات أخرى ،  جذوة النار التي لم تنطفئ أبدًا.

بدأت الحكاية من بيت أبي جعفر الورّاق عندما سلم أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الحمراء المسلمين مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين الملك فرناندو والملكة إيزابيلا واستمرت على مدى ثلاثة أجيال ولكنها امتدت حتى شواطئ بلاد المغرب التي كان يرحّل إليها العرب عبر البحر أو يهربون فرارًا من المكان الذي ما عادوا  يعرفونه لا بأناسه ولا بلغته ولا معتنقه ، هكذا عالجت رضوى في روايتها عددًا من القضايا المضرمة في ضمير المجتمعات المحتلة.

كانت السطوة الأكبر في الرواية لكل مرسومٍ يصدره الأسبان ، يغتصبون معه حقًا جديدًا للعرب والمسلمين، مع كل مرسومٍ كانت تُقَضُّ مضاجع البعض بحثًا عن مخرجٍ يحفظ للأجيال القادمة حقها في دينها ولغتها وأرضها.

والبعض الآخر آثر السلامة بنفسه وعياله حتى وإن كلفته دينه وهويته.

والقلة التي تجد في نفسها رمقًا طويلاً تستطيع به الدفاع عن كلّ هذا ، تقرر أن يكون سرّها الحفاظ على دينها ولغتها بتمريرهما وتعليمهما للأجيالِ القادمة في بطون الكهوف أو تحت دهاليز البيوت المظلمة.

أفلحت رضوى في تصوير حياة الورّاق والفلاّح والنّجار والحدّاد والتاجر والفقيه والخادم بين صراعاتهم وهواجسهم كلٌ يبحث عن نجاته من استبداد المحتل وقسوته ، سواء كانت تلك النجاة إيمانًا بالنصر أو إيذانًا وتسليمًا بالرحيل أو دخولاُ تحت لواء التنصير.
هكذا نجحت رضوى في جذب جغرافيا الأندلس وتاريخها في ثلاثية فريدة ، لم يسبقها الولع بكتابة مشروعٍ ثقافيٍ تاريخيٍ ، ولا فضول التنقيب عن حقائق الفردوس المفقود ، تقول رضوى – رحمها الله – في إحدى محاضراتها :

"وأنا أتابع أخبار قصف العراق ، رأيت المرأة العارية تقترب وكأنني أبو جعفر الوراق في الرواية يشاهد في عريها موته  ، استبدّ بي الخوف وأنا أسأل : هل هو الموت الوشيك ؟ وإن كان فأي علاقة أديرها الآن مع موتي ؟ ومع السؤال داهمتني غرناطة فبدأت أقرأ. أعتقد أن رواية غرناطة بدأت في تلك اللحظة."

جاءت ثلاثية غرناطة  كواحدة من الروايات التي تردّ على مزاعم من يدّعي بأنّ
" الروايات لا تسمن ولا تغني من جوع "

 جاءت هذه الرواية لتفتح بابًا من أبواب الوقوف على التاريخ ، والتحريض على نبشه وفهمه، وحملت بين طيّاتها مرآة قادرة على وضع الإنسان في مكاشفة حرجة مع الذات ، مع الاعتوار الذي يعتريه أكثر من الاستقامة التي يدّعيها.

وعلى امتداد الحكاية حضرت في ذهني أبيات قصيدة " أندلسان " للشاعر محمد عبد الباري ، حضرت هذه المقاطع منها تحديدًا:

" يا أنتَ أندلسُ المكانِ قريبةٌ
مقدارَ ما القوسُ استعادَ سهاما "
" يا أنتَ أندلسُ الزمانِ بعيدةٌ جدًا
فكن لليائسين إمامًا "
" غرناطةٌ مالا يزار لأنها وقتٌ
وهذا الوقتُ صارَ حطاما "

ولم تكن لغة الحكاية أقلّ ثقلاً فقد حمّلتها رضوى مفرداتها الرصينة وتفصيلاتها الدقيقة وتشبيهاتها البديعة غير أنها أفرطت في التفصيل و التشبيه حدّ أن قلصت المساحة المتاحة للقارئ حتى ينسج في خياله حكاية غرناطته الخاصة.



0 التعليقات:

إرسال تعليق