أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الأربعاء، 24 يناير 2018

حمام الدّار قد يغيب



لا يُمكن لهذا النص أن يُقرأ قراءة واحدة إذ تكون قراءة مستطلعةً تحدد ملامح الصورة بكلياتها ، هذا النص كُتب ليُقرأ مرة ثانية ، مرة تستطيع من خلالها أن تُشير إلى مواضع الأشياء التي تعرّفتها. مرة تشي بأسرار غياب حمام الدار وتفكك فلسفته.

كتب السنعوسي هذه الرواية بلغة جيدة وذكاء بالغ راوح به بين شخصيتين كلّ منهما صانع الآخرِ ومصنوعه ، بعيدًا عن إطار الزمان وملامح المكان الواضحة استطاع أن يقدّم لنا قصّة غير موجعة برغم أنها تشاكس فينا معنى الفقد.

بدأت الرواية بمراوغة مأزق الكتابة ، حين تحضر الفكرة وتتمنّع في آنِ معًا ، بدأت وهي تشير بصباحاتها وأصابعها الخمسة إلى هاجسِ الدُّرجِ السفليّ وظلمتِه التي تبتلع كل الأعمال الغير تامة ، فكان الدُّرج السفلي هاجسًا لأبطال الرواية أيضًا، مما جعلهم يشاركون الكاتب في محاولاته لاستدراج نهايتهم. نهاية الفكرة والنص والأبطال.


أما أحجية ابن أزرق فقد تجلّت في واقع الشخصيتين
" عرزال ومنوال "

فقد كان عرزال كهلاً لم يعرف من ماضيِه غير أمسه ، وهي لحظة ميلاده على ورق كاتبه وصانعه ، باحثُا عن المعنى ، عن مسوّغات تشبثه بالحياة وعدوله عن الموت ، متعلقًا بعبثية لا يفهمها بالحمامة الأم فيروز على دكة نافذته وفرخيها زينة ورحّال ، ولا يميّز رتابة أيّامه غير دفتر مذكراته القابع على المنضدة بجانب سريره والذي يطل منه على الأمس الملتبس لديه والماضي الذي أراده له كاتبه برغم أنّه لم يعشه ولا يتذكره ، ماضٍ يربطه بأزرق والحمامة وفرخيها وبصيرة وتعويذتها التي يحملها القارئ معه على امتداد النص حتى يفهم حكاية " حمام الدار الذي لا يغيب وأفعاه التي لا تخون "

وحين يحضر منوال يبدو منطق حكاية عرزال أكثر وضوحًا
من حيث امتدادات القصتين واختلاف الأبطال وتجلياتُ الفقدِ والنهايات المعقودة ببداياتها ، في حضرة منوال ندرك أنّ حمام الدار حين يغيب قد لا يعود ، واحتمالاتُ العودة آمال يصيّرها الانتظار إلى أوهام، والأزرق الآخذ لا يستطيع المنح ، وفيروز أمّه التي لا يذكّر غير غنائها الذي يؤنسها و تواجهُ بهِ خوفها وتبرأ به من آمالِ انتظار الغائبين.


لم يكتمل النص ، ولم تحن النهاية ، فتحقق للكاتب ما كان يهجس به ابتداءً، آلت الحكاية إلى مصيرها إلى ظلمة الدُّرج السّفلي
هكذا ينهي السنعوسي الرواية.
  رواية حمام الدار " أحجية ابن أزرق "


وبهذا أنهي أول تجربة قرائية لي معه ، لأبدي إعجابي بذكائه في تصوير أفكاره وبتقنيته المتميزة في كتابة هذا النص ، وتركيزه على الشخصيات التي أخذت بيد الأحداث لينتجَ لنا سردًا متعدد التأويلات ومحرّضًا على إعادة القراءة .
 وقد كتب السنعوسي روايته بلغة سهلة لها إلماحاتها و حاولَ على امتداد النص أن يحافظ على سلامتها في حين وقع في عثراتٍ لغوية قليلة جدًا.





0 التعليقات:

إرسال تعليق