لا شيء بعد أقرأ يعود كما كان.
في البداية يعاني الواحدُ
منَّا أعراضًا انسحابية، تثقل عليه حمولة الدقائق والساعات، تشتدُّ وطأتها على
ظهره وفي صدره، ثمُّ يعود إلى أهله وبيته وهو يشعر بالفراغ، لا يعرفُ من أين يجيء
الهواء؟ لكنّه يمرٌّ ياردًا في داخله و وقته وأمكنته.
يستوحش الأمكنة ابتداءً،
لأنها خالية من آل أقرأ (الرّفاق والروّاد والمصورين والمشرفين...)، ما زاروا بيته يومًا لكنّه من
فرط ما تعلّق بهم على مدارِ أسبوعين أو يزيد، لأكثر من 12 ساعةً يوميّة، اعتاد
فيها حضورهم، أصواتهم، روائحهم و وجوههم ظنّ أنه يعرفهم قبل ذلك وسيعرفهم دائمًا.
ثمَّ يستوحش الوقت بعدهم لأنه معهم كان ممتلأ جدًا باللقاءاتِ والنقاشات والمحاضرات
والأمسيات العذبة وبنفسِ القدر بالمهام والمسؤوليات التي لابدّ أن يُنجزها حتى أنّ
كل ذلك يزاحم وقت نومه وراحته، ولكنه كان فرحًا، مسرورًا، لأنه يعرف أنّ هذا الوقت
الطويل، المرهق أحيانًا، مؤقتٌ وعابر.
سامي يقول: ملتقى أقرأ جنة القراء، ثمّ يباغتني بسؤالٍ مُنتصر، صفي
التجربة بكلمة واحدة يا أصالة؟
إن كنتَ يا سامي استأثرتَ بوصف الجنة للقراء، وتركتني في لجة بحر
اللغة أتخبط باحثة عن كلمة واحدة فما عساها تكون؟
2020 .. هذه المرة جئتُ إلى أقرأ رائدةً لا قارئة، وهذا يعني أن أنظر
إلى التجربة من منطقة مرتفعة أكثر، متخففة من المخاوف والارتباكات، والأجمل أن أساهم
في تعمير هذه الجنّة للقراء وهذا ما حاولتُ فعلهُ على امتداد ثلاثة أسابيع، بدأت
بأسبوع لقراء المرحلتين (الإبتدائية والمتوسطة) ثمّ قراء المرحلتين(الثانوية
والجامعية).
فعلتُ كما أفعل دائمًا أمام مرايا التجاربِ، أبحثُ فيها عمّا لا
أعرفه عن نفسي أو ما عرفته بشكلٍ خاطئ، أو ما ظننتُ واهمة أني أعرفه كاملًا، فكاشفتني
التجربة.
وكالعادة أيضًا وجدتُ الكثير من كلّ ذلك. وأمتنُّ عليه.
أمتنُ للقارئات اللاتي أشرفتُ عليهنَّ (خديجة، مارية، آية، فاطمة،
ريما، إيمان، جنان، رويدا، زينب، سيرين، شهد).
وأمتنّ لكل القراء الذين قابلتهم وعرفتهم,
أمتنٌ للرفاق الذين شاركتهم تجربة الإشراف والرّيادة الأساتذة الكرام:
أ/سامي البطاطي.
د/هند الحازمي.
أ/جمانة السيّهاتي.
أ/فواز العبّاد.
د/فيصل الشهراني,
أ/إبراهيم آل سنان.
أ.رشاد حسن.
أ/أروى الفهد.
أ/ ربا عبدالله.
أ/شيماء الكثيري,
ثمُّ أجيء أنا، أصغرهمُ سنًا وأقلهم نضجًا، وأغضهم خبرة، وهذا والله
مما كنتُ حظية به، لأنهم زادوا لي في رصيد العمر والنضج والخبرة ما يمنح للقادم من
أيامي ثراءً وجمالًا وعمقًا، وأحملهُ
وسامًا على صدري أردٌ فيه المعروف والشكر لأهله على الدوام. فتقديرًا و ودًا
وفيرًا لهم.
خلود والوليد وأشخاصٌ كثيرون في أقرأ، لم أتحدث عنهم بعد ولعل المقام
لا يسعني هنا ولا يسع حمولة المشاعر التي أكنها لهم، لكنهم يعرفون جيّدًا أنهم ما
مروا عابرين وإنما مرّوا عليّ كرامًا، بررة.
انتهى الأمسُ(اليوم الأخير في ملتقى أقرأ) باحتفالٍ بسيطٍ يجمعنا نحن آل أقرأ، حين جاء
دوري في استلام الدّرع، قال الأستاذ طارق الخواجي مازحًا: الآن جاء دور المُلامة
على حدوث الأمور التي لا تسير على ما يُرام.
فأجاب الجميع بصوت واحد: أصالة.
ثمّ ضحكنا، لأن هذا التعليق جاء عطفًا على موقفٍ سابق لطيف في مقام
المُزاح أيضًا.
وعندما ذهبت لاستلام الدرع والتقاط الصورة معه، قلتُ بصوت متذمرٍ
متندر: أهذه السمعة الطيبة التي تركتها عندكم؟!
فأجاب الأستاذ طارق بنبلٍ اعتدته منه: أنتِ نورٌ على نور يا أصالة.
ومنذ الأمس إلى اليوم وأنا أبتسم مبتهجة كلما ذكرتُ هذا الموقف، لأنه
غالٍ عليّ جدًا.
ثم أسأل الله أن يجعلني أهلًا لهذا الظنِّ الطيب، وأن أكون قد أديت
مسؤوليات تواجدي هنا على أكمل وجه.
أخيرًا أريدُ أن أقول شيئًا عن المنطقة الشرقية وأهلها:
هنا عندما تبدأ مُحادثتك/ لقاءك مع أحدهم رجلًا كان أو امرأة، لا تنتهي منها
إلا بحيرة عذبة وسؤالٍ باسم، هل السعة في
قلبكِ أم على الأرض أو في وجوه الناس؟
يُلمّح الشاعر
السعودي عبداللطيف بن يوسف للأمر قائًلا:
" البحر ..
يسكنهُ الذين تعوّدوا عيشًا على أفقٍ تؤطّرهُ السَّعة."
ثمٌّ لا يسعك بعدها إلا أن تفهم هذه العلاقة الفاتنة بين البحر وأهل
الشرقية، يمدُّ كل منهما الآخر بشيء مما فيه، تقف على أعتاب الأول مأخوذًا بما
تراه وما لاتراه ولكن تُحِسه وتقف قبالة الآخر مٌندهشًا من رحابته وإقباله عليك وكرمه.
نعم هذه تجربة أطرافها مُتراميّة، من أيِّ طرفٍ أمسكتُ به فيها، قلت:
يا الله .. ما أسعدني وما أكرمك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق