أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

الأحد، 1 أكتوبر 2017

نسيان


أمامي الآن إبر الأنسولين الخاصة بجدتي المتوفاة قبل ثلاثة سنوات  - رحمها الله - والتي أحتفظ بصورتها في هاتفي النقال وسط العديد من الصور المتكاثرة بسرعة مخيفة  ويعزّ عليّ حذفها أيضًا ، وتقع عينيّ على دفتر الذكريات الملقى على الطاولة والذي أحتفظ فيه بالكثير من الصور والكلمات القريبة إلي ،  وفي بعض رفوف مكتبتي هدية من هذه وأخرى من تلك ، وفي أسفل خزانة ملابسي ثمة بعض العلب والأكياس التي تحفظ وجوه أصحابها، وفي أجزاء متفرقة من غرفتي أحتفظ بأشياء كثيرة مماثلة ، غرفتي ذاكرة ! ذاكرة عصيّة على النسيان إلى حدّ ما.
عندما انتقلنا مؤخرًا إلى المنزل الجديد ، كان على غرفتي أن تتخفف ، كان على الذاكرة أن تفيض قليلاً حتى يكون هناك متسعٌ للجديد والمزيد.
فنسيت غرفتي أو على وجه أدق أنسيتها !

على الأقل غرفتي الذاكرة مطواعة،  أقرر لها متى تتذكر ومتى تنسى ، بماذا تحتفظ وعن ماذا تنأى ،  وهذا تحديدًا ما أفشل بفعله مع ذاكرتي هي عصيّة أيضًا لكنها قصيّة لا تطالها يداي العابثة. وهذا أكثر ما يرهقني ويُعجبني في آنٍ واحد.
تُرهقني حين أكرر محاولاتي البائسة في اجتثاث الأوجاع وتجاوز الخيبات و التخلص من البقايا ، التخلص من المفقودين وبقاياهم ، أولئك الذين تقرر الحياة نسيانهم وأخرون يقررون نسياننا نحن .
لكنها وفي لحظة مخاتلة تنسى ، تقرر لي أن أنسى !

في تلك اللحظة التي تبدو مستعدة فيها للتجاوز والمُضي ، للتعثّر بوجوه جديدة والامتلاء بما لم تعتد عليه كرائحة عطرٍ يحفظ قداسة اللقاء الأول ، وصوتٌ أثيرٌ تُربكني حتى أشباهه ، وهكذا تكرر الذاكرة دورتها على الدوام ، وأقبل ذلك منها.
ماذا لو نسيت قبل أن يحين الوقتُ المناسب ؟ ماذا لو تجاوزت قبل أن أتعثّر بالشخص المناسب ؟ ماذا لو مضيتُ قبل أوانِ حدوث ما يُدهشني ويُعجبني وأحب ؟

ماذا سأفعلُ بذاك الخواء الذي سيتمدد فيّ ، وكيف لي أن أسكت صدى الفراغ المتبجح ، أريد أن أمتلئ وأريدُ أن أنسى كيفما شاءت ذاكرتي لي ، وأريدُ أن أتعثر كيفما شاءت لي أيضًأ ، المهم ألاّ أفرغ وألا أتذكر.
أريد لرائحة عطر عابر طريق لم يقصد نبش الذاكر ؛ أن تربكني.
أريدُ لوجهه إذا ما التفتُّ مدفوعة بالحنين إليهم ، أن يصيبني بدهشة لقاء أول أشباههم الأربعين.
وأريدُ أن أمضي في الحياة بعينين مفتوحتين على اتساعهما ، تبحثان عن أكثر مما رأيتُ وعرفتُ وأتذكر ، والنسيان وحدهُ يضمن لي حياة حية كهذه.

تنسى ذاكرتي أحيانًا الأشياء التي تعجبني وتدهشني وأحب وهي إذ تفعلُ ذلك ، تجعلني أخفّ ثقلاً لأنّي بالتأكيد لن أحتمل الصداع الذي يمكن أن يصيبني إذا ما تذكرتُ كل اللحظات الجميلة على مدى 21 عامًا أو أقلّ قليلاً، إذ تنسى ذاكرتي فهي تمنحني فرصًا لا معدودة من الدهشة المتكررة ،وهي إذ تفعلُ ذلك ، أقدّر لها صنيعها الذي يجعل العالم حولي غيرَ مألوف ، لأكون في حضرته الطفل الذي يعتمد على حواسه الخمس فيرى ويسمع ويلمس ويشم ويتذوق ليفهم الحياة حوله ، ذاك الطفلُ الذي يعبّر عن انتصارات فهمه البسيطة بالنسيان وتكرار المحاولات.


0 التعليقات:

إرسال تعليق